الرحيل قبل الرحيل .
ألهاني طول الأمل و أدخلني أبواب الجدل .. فتساهلت كِبْرًا عن تنقية سيئاتي
من رصيد حسناتي ، بحجة أنني لست ملكا ، و لا نبيا .. و تناسيت في غمرة
تلك المسوغات أن الموت يطلبني حثيثا .. فتراكمت عليّ الآثام كالآكام و
أغرقتني في لجج من الآلام .. فشوّهت صورتي في ملكوت السماء ، و صارت
ترددات أمواج قلبي ضعيفة لا تتعدى سقف رأسي !! فازدادت أشجاني و
تجرّحت لها أجفاني .. حتى تشابهت عندي الأنهر و الليالي ، فما دريت حينها إن
كان هذا من حسن البلاء لدر العطايا.. أم هو استدراج لإهانة هذا القلب
المتمادي في ظلمات الخطايا !! وما انتبهت إلا و صوت يهتف لي " البر لا يبلى
، و الإثم لا لاينسى ، و الديّان لا ينام .. و كما تدين تُدان " .. وكان عزائي
أني صاحبت إخوانا لأتمّ معهم رحلتي إلى الجنان هنالك حيث الحور الحسان ، و
القصور المرصعة باللؤلؤ و المرجان .. لكنّ تلك الإشراقة سرعان ما خفت
ضوؤها ، و تلاشى طيفها من شدة العواصف الهوجاء التي ضربت جميع الأرجاء
.. فخارت لها عزيمتي و أبت الإنطلاق .. و عجز لساني عن دفع نفسي بأنوار
الإستغفار،.. و كان من المفروض أن أقف أمام نفسي قبل عملية السباق و
اللحاق .. لكن مصل الدنيا مصّاته محكمة .. أدخلتني عالم الإفلاس.. و إذ
بمكاسبي تضيع في سوق الكساد .. و عدت مرة أخرى أعلّق
الرحيل ..و انتظر قافلة جديدة لعلّي أحجز مكانا معها للسفر الطويل...
و هاهم ينطلقون في موكب حافل يعجّ بالتكبير و التهليل .. فقلت كيف
السبيل كيف أبدأ المسير ؟! و أنا الأسير في قفص التواني كالطير الكسير
..أنادي من بعيد .. اصرخ من تحت أمواج البحر المديد .. انتظروني .. لا
تتركوني مرتهنا في بحر الأماني .. فإذا بمنادٍ يهتف لي : كيف تلحق بهم و أنت
للدنيا مطيع و في أحضانها منكمش كالرضيع !!! كيف تلحق بقوم سافروا
خِفافا بارواحهم رغم وحشة الطريق و قلة الصديق.. و أنت مثقل بالقيود في
زاوية كالرقيق !! فتذكرت بعد غفوة أن القافلة على وشك الوصول
، و أنأ لا أزال في في سوّاقة الخمول .. فناديت بأعلى صوتي في ذهول :
إلهي ، و سيّدي لا تجعلني وحيدا فريدا أتيه في دنيا الغفلات ، أتجرع فيها
لهيب الجمرات ، و أركض كالوحش في البريّات بلا نظرات .. فما انتبهت إلا
و أنا معاقب بجانب الطريق أنتظر راحلة استدراك تأخذ بعثراتي ، و تمسح
عبراتي جراء خساسة همّتي ، و ضعف بصيرتي و قلة حيلتي !!! فما وجدت أحدا
سوى صدى قلبي الجريح و رياح العواصف الرملية التي ملأت جفوني
و اختلطت مع دموعي ..فصرت لا أرى إلا بغمامة الندم ... فتهت مرة أخرى
مع نفسي و استسلمت لها ، و ما اتبهت إلا حين لمع برق موعد الرحيل مع
عسعسة الصبح الأصيل .. و ضوء النهار الكليل معلنا نهاية الليل الطويل ..
فانطلقت أجر جسمي الثقيل تحت أشعة الشمس الحارقة و أغصان البان أمامي
تتلوى من حرقة الرحيل .!!! فما بقي في مخيّلتي سوى غبار موكب الأحبة ..
فعزمت هذه المرة بأن أرصد القافلة و أتعرض لها كاللص لئلا تفوتني :
إِذا سكنتمْ فقلبي دائمُ القلق ... وإن رقدتمْ فطرفي دائمُ الأَرَق
سرقتُ بالنوم وصلاً من خيالكمُ ... فصار نوْمِيَ مقطوعاً على السَّرَق
فأنا الآن أنتظر قافلة رمضان لعل الله يفتح لي أبواب الجنان فألحق بمزكب
الخلاّن .
محمد الزين 47