أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
البكاء خبرة سيكولوجية يمر بها كل إنسان فى مختلف مراحل حياته، صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، غنياً كان أو فقيراً، ورغم شيوع خبرة البكاء لدى جميع الناس، إلا أن الملاحظ أن الدراسات التى أجريت على البكاء، أو الكتابات التى أثيرت حوله، قليلة جداً وأغلب الظن أن مرجع ذلك إنما لكون البكاء خبرة سيكولوجية مؤلمة، والإنسان عادة ما يبتعد عما يؤلمه سواء بقصد أو دون قصد، فلا الكتاب يريدون أن يكتبوا عن البكاء، ولا القراء يقبلون على القراءة عنه!!.
والحقيقة التى لا شك فيها أن البكاء آية من آيات الله عز وجل فى النفس الإنسانية، مثله تماماً مثل الحياة والموت والخلق، فهو القائل سبحانه: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى 43 وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا 44 وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى 45) النجم: 43-45، فهو سبحانه الذى خلق البكاء وسبب دواعيه، وجعله ظاهرة نفسية عامة ومشتركة لدى جميع البشر على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم ومذاهبهم وبيئاتهم، فالبكاء لغة عالمية لا تختلف باختلاف الألسن أو الثقافات أو البيئات، فالجميع يبكون بنفس الطريقة ولنفس الأسباب غالباً.
وغالباً ما يكون البكاء مصحوباً بانهمار الدموع من العيون، ورغم أن للدموع وظيفة فسيولوجية تتمثل فى ترطيب العين وتليين حركتها أثناء النظر من جهة إلى أخرى، وأيضاً زيادة مقاومتها للعدوى، إلا أن لها أيضاً وظيفة نفسية، فالخبراء النفسيون ينصحونك بالبكاء، وأن تترك العنان لدموعك تنهمر على خديك، عند تعرضك لمواقف نفسية صعبة أو توتر عصبى شديد، فالدموع تجلب الراحة النفسية لأنها تساعد على إزالة التوتر النفسى والتخفيف من الضغط العصبى على الإنسان.
المرأة أكثر بكاءاً من الرجل يؤكد العلم الحديث أن المرأة أكثر بكاء من الرجل بسبب زيادة عدد الغدد الدمعية لديها وغزارة إفرازاتها عن الرجل، والحقيقة أن الدموع تاج على رأس المرأة لا يعرفه إلا الرجل، فالمرأة عندما تبكى فإنها تخفف من توترها العصبى وترتاح بدموعها، ولذلك فالدموع لها نعمة، أما الرجل فإنه لا يعرف كيف يبكى، فالتربية الشرقية تزرع بداخله منذ الطفولة أن الدموع للنساء وأنها ضعف وعيب يجب أن يخجل منه، ولذلك فالرجل يغلى من الداخل تماماً كإناء يغلى ويتبخر ويحتبس بخاره بداخله، أما الغليان داخل المرأة فيتحول إلى قطرات دموع تنفس بها عما بداخلها من غليان، لذلك تنفجر المرأة بالدموع، ولكن الرجل ينفجر فقط!!، وقد يموت الرجل من هَمٍّ واحد ينفجر بداخله، ولا تموت المرأة من عشرات الهموم، لأنها تبكى فتريح أعصابها أولاً بأول، لذلك يقول بعض الفلاسفة أن المرأة أطول عمراً من الرجل لأنها أكثر منه بكاء وأغزر دمعاً.
فالبكاء نوع من التفريغ والتفريج النفسى الذى يريح أعصاب المرأة ويجعلها أصح وأسلم من الرجل الذى أعتاد ألا يبكى – بحكم التربية – وهى غلطة تربوية كبيرة، فيجب أن نترك الطفل يبكى ففى ذلك تخفيف من توتره العصبى، فالبكاء سلوك صحى وعلاج سريع لأغلب المتاعب النفسية.
وهناك مثال يسوقه د. عبد العزيز القوصى فى كتابه (مشكلات وصور نفسية) لشاب كان والده قد نفخ فيه منذ صغره أنه رجل وأن البكاء من صفات النساء والأطفال لا من صفات الرجال، فنشأ متعوداً أن يكبت مشاعره، فهو يشعر بأنه يريد أن يبكى فى بعض المواقف إلا أنه لا يستطيع، فيؤدى به ذلك إلى الضيق الشديد وإلى أزمات نفسية طاحنة، فكان إذا جلس إليه يحمله على البكاء لأن البكاء هنا بمثابة تفريغ لما عنده من ضغط، ولهذا فهو يريحه حيث يخفف عنه بعض ما يعتريه من توتر، ويصرف جزءاً مما عنده من شحنات انفعالية.
لماذا نبكى؟ يرتبط البكاء غالباً بالضعف، فهما متلازمان سواء كان الضعف مرضاً أو وفاة عزيز أو أزمة أو غير ذلك، لأن البكاء فى أصله استغاثة، فالصغير عندما يبكى ويرتفع صوته ويجهش فإنه يستغيث، وينجح فى أن يحرك فى الأم كل عواطف الأمومة فتهرع لحمايته، ويقول علماء النفس أن صرخة الطفل تفتح قلب الأم، فمن فضل الله علينا أن جعلنا نبكى حتى نحصل على الحماية والرعاية والعطف، وقد دلت الدراسات النفسية على أن الطفل فى سن الثالثة يبكى فى حضور أمه أكثر مما يبكى إذا كان بمفرده، بل أن كثيراً من الأطفال يكونون هادئين فإذا ظهرت الأم بدأوا يبكون، وهذا معناه أن البكاء له وظيفة فإذا انقطعت صلة البكاء بوظيفته انقطع البكاء، فالمقصود بالبكاء تحريك الآخرين، فإذا كان الآخرون غير موجودين فإن البكاء يفقد وظيفته ويختفى.
والإنسان عندما يبكى فإنه يعبر عن ضعفه واحتياجه إلى الأمان والراحة، فلا يجد غير الدموع تنفيساً عما يعانيه من ألم نفسى وضغوط عصبية، لذلك وضع قدماء المصريين تقاليد الجنائز عند الوفاة حيث يجتمع الناس ويبكون ويستبكون ويحمس بعضهم بعضاً، وبذلك تكون الجنائز فرصة لتفريغ شحنات انفعالية عند الكثيرين، ولا زال بعضاً من ذلك سائداً فى كثير من المجتمعات العربية حتى الآن خاصة بين النساء.
وبكاء الشخص عند وفاة عزيز عليه نوع من الضعف واليأس، ومعناه انعدام القدرة على عمل ما ينقذ الموقف وغرضه اللاشعورى استدرار عطف الآخرين، فقريب المتوفى مثلاً يكون متأثراً وحزيناً دون أن يبكى عادة وهو بمفرده، فإذا ألتقى مع قريب آخر أو صديق بكى الاثنان معاً، فالبكاء يظهر عادة بالالتقاء الذى يصحبه التجاوب بين الأشخاص، فنحن عندما نرى الآخرين يبكون يتولانا ميل إلى البكاء ونبكى فى الغالب بالفعل، وهكذا تصطخب الجنائز بالبكاء، ولهذا يجتمع الناس للبكاء، ولو أنهم يقولون عادة أن كلاً يبكى على حاله أو مأساته الخاصة.
صور من البكاء وإذا كان البكاء من الأمور السيكولوجية الشائعة لدى جميع البشر، إلا أنه كأى ظاهرة نفسية قد يكون ظاهرة صحية أو مرضية، ويرجع ذلك إلى تنوع أشكال البكاء وتعدد صوره وألوانه ودرجاته ووظائفه، فبكاء الطفل نتيجة شعوره بالجوع أو المرض بكاءاً صحياً يجعلنا ننتبه إلى حاجاته ونشبعها له، ولكن بكائه المستمر نتيجة الإفراط فى التدليل أو لرغبته فى تنفيذ كل طلباته وأهوائه لا يمكن أبداً أن يكون بكاءاً صحياً، وكذلك بكاء الإنسان نتيجة استشعاره لعظمة الله وجلاله وخوفاً من قدرته وبطشه، لا يمكن أن يتساوى مع بكاءه ليخدع الآخرين ويكذب عليهم ليحقق مآرب أخرى فى نفسه.
ومن الصعب الإحاطة بجميع أشكال وصور البكاء لدى جميع البشر، فالبكاء ظاهرة نفسية تتنوع مظاهرها وأسبابها ووظائفها بتنوع واختلاف نفسيات البشر ذاتهم، ولذلك سنكتفى بالإشارة إلى بعض الصور الشائعة من أنواع البكاء.
بكاء الأطفال الأطفال أكثر المخلوقات بكاء، وللبكاء لدى الطفل وظائف ومسببات عديدة ، فالطفل يستخدم البكاء كوسيلة للتعبير عن احتياجاته أو خوفه أو مرضه، فإذا شعر بالجوع بكى طلباً للطعام، وإذا شعر بالبرد بكى طلباً للدفء، وإذا شعر بالألم أو المرض بكى تعبيراً عن ألمه ومرضه، وإذا أزعجه شئ أو خاف من شئ أو شخص ما بكى خوفاً، وإذا شعر بغياب أمه أو انشغالها عنه بكى طلباً لعطفها وجذباً لاهتمامها واستدراراً لحنانها ورعايتها.
وهناك أطفالاً يجعلون من بكائهم سلاحاً ماضياً ينالون به كل ما يريدون من أمهاتهم وآبائهم، فإذا رفض الأهل تنفيذ رغبة من رغباته فإنه يشهر فى وجوههم سلاح بكائه المستمر فتضعف إرادتهم ويرضخون لرغباته وطلباته. وإذا كان بكاء الطفل نعمة من الله عز وجل تجعلنا نهتم به ونعطف عليه ونرعى شئونه، إلا أن إساءة استخدام الطفل لهذه الوسيلة – كما ذكرنا – يجب أن يواجه من الأسرة ببعض الضبط والتحكم، حتى لا يشب الطفل مدللاً متعوداً على ضرورة إجابة كل طلباته وأوامره، مما يعرضه فى المستقبل لكثير من الاضطرابات النفسية فى حالة عدم قدرته على تحقيق رغباته وكل ما يريده، فيتحول إلى شخصية غير سوية لا هم لها إلا التملك وإشباع الرغبات حتى ولو على حساب الآخرين!!.
بكاء الضعف والخوف كما ذكرنا فإن البكاء والضعف متلازمان، والإنسان عندما يبكى فإنه يعبر عن ضعفه وقلة حيلته وحاجته إلى الحماية، لذلك يرى بعض علماء النفس أن البكاء لدى الكبار نوع من النكوص إلى مرحلة الطفولة، فالطفل يحتاج دائماً إلى الحماية، ومن ثم فإن البكاء نكوص إلى المرحلة التى تتطلب الحماية.
ويصدر البكاء فى حالات اليأس وفى الأزمات، غير أن حالات الضعف تشجع عليه أكثر، كما يقول الدكتور القوصى، ولابد أن يكون قد مر فى خبرة القارئ ما مر فى خبرتى فقد كنت أعرف رجلاً لم يكن فى العادة يبكى على ما أعلم، ولكنه أصيب بمرض شديد، وأضطر للاستسلام للفراش وساءت حالته فأصبح لضعفه أشبه بالأطفال فى حاجة لمن يأتيه بغذائه ويعاونه فى قضاء حاجته، وقد زرته وهو على هذه الحالة فما كاد يرانى حتى ابتلت عيناه ثم أغرورقت ثم انهمرت دموعه، فإذا بى أتأثر وأبكى معه، ثم فكرت بعد انصرافى من زيارته عن السر فى هذا البكاء، فأدركت أن زيارتى له قد ذكرته بما كان عليه من صحة وقوة، فعزت عليه نفسه ولعله شعر باليأس من الشفاء وبأنه يسير نحو القدر المحتوم، فلا الطب يسعفه ولا أصدقاؤه يساعدونه ولا أولاده ينقذونه، فبكى استدراراً لعطف الله عليه وإعلاناً لضعفه وخوفه.
وكثيراً ما يجد الإنسان نفسه خائفاً من شئ ما، كعدو يترصده، أو مجهول يتهدده، أو مستقبل غامض ينتظره، فيبكى خوفاً وجزعاً من هذا القادم الذى يشعر إزاءه بالضعف وقلة الحيلة، والإنسان الذى يتعرض للخوف الشديد كخبرة نفسية حادة ومؤلمة، يحاول أن ينفث عن خوفه ويقلل من توتره بالبكاء، وقد يصاب الإنسان بأمراض عديدة نتيجة لخوف شديد لم تتحمله أعصابه، بل أن زيادة الخوف إلى درجة لا يتحملها الإنسان قد تؤدى به إلى الوفاة، وهنا يكون للبكاء دوراً هاماً فى إعادة التوازن النفسى للإنسان والتخفيف من حدة الخوف الذى يصيبه.
بكاء الشفقة والرحمة وهذا النوع من البكاء يشيع بين الأناس رقيقى القلوب، غزيرى المروءة، سريعى التأثر بمن حولهم، فأنت عندما ترى طفلاً صغيراً مريضاً أو عاجزاً فإنك قد تبكى شفقة ورحمة عليه، بل إن بعض الناس ليبكون تأثراً وشفقة لمجرد رؤية حيوان يتألم أو طائر حبيس.
ويدخل فى ذلك أيضاً بكاء الإنسان شفقة ورحمة على ذويه وأصدقاؤه وغيرهم عندما يصابون بسوء أو يكونون فى موقف ضعف نتيجة مرض أو فاقة أو مصيبة أو غيرها، ومن أمثلة ذلك فى السيرة النبوية الشريفة ما روى عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (متفق عليه)، وما روى أيضاً عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رُفع إليه ابن بنته وهو فى الموت، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (هذه رحمة جعلها الله تعالى فى قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) (متفق عليه)، وكذلك ما (رواه البخارى) عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم رضى الله عنه وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: (يا بن عوف إنها رحمة) ثم أتبعها بأخرى، فقال: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزون)، وهكذا نرى أن قلب الإنسان عندما تملؤه الشفقة والرحمة على مخلوقات الله تصبح الدموع أصدق وأنبل تعبير عن هذه الشفقة والرحمة.
بكاء المحبين والعاشقين والبكاء – كما يقول ابن حزم الأندلسى – من علامات المحبين، ولكنهم يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع هامل الشئون تجيبه عينه وتحضره عبرته إذا شاء، ومنهم جمود العين عديم الدمع، وأنا منهم – والكلام لابن حزم – فإنى لأصاب بالمصيبة الفادحة فأجد قلبى يتفطر ويتقطع وأحس فى قلبى غصة أمر من العلقم تحول بينى وبين توفية الكلام حق مخارجه، وتكاد تشوقنى النفس أحياناً ولا تجيب عينى البتة إلا فى الندرة بالشىء اليسير من الدمع، ويصور ابن حزم حال المحبين مع البكاء فى قصيدة له يقول فيها:
دليل الأسى نار على القلب تلفح ودمع على الخدين يحمى ويسفح
إذا كتم المشغوف سر ضلوعه فإن دموع العين تبدى وتفضـح
إذا ما جفون العين سالت شئونها ففى القـلب داء للغـرام مبـرح
وما أبلغ قول الشاعر تعبيراً عن حالة البكاء التى تنتاب العاشقين حين يقول:
فما فى الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حـلو المذاق
تـراه باكيـاً فـى كل حـين مخـافة فرقـة أو لاشـتياق
فيبـكى إن نأوا شـوقـاً إليهم ويبكى إن دنـوا خوف الفراق
فتسـخـن عينه عند الفـراق وتسـخـن عينه عند التلاقى فللبكاء لدى العاشقين وظيفة هامة فى التخفيف عما يلاقونه من نار الشوق، وخوف الفراق أو العوازل، وهو نوع من التفريج النفسى لما يعانوه من ألم الحب والخوف على المحبوب.
بكاء الفرح والبكاء ليس دائماً قرين الحزن واليأس، وإنما هناك نوع من البكاء لا يظهر إلا فى حالات الفرح الشديدة!!، وهو ما يسمونه (دموع الفرح)، فكثير من الناس عندما يمر بخبرة سعيدة أو فرحة غامرة، لا يجد ما يعبر به عن هذه السعادة سوى البكاء، فالأم مثلاً تبكى فى ليلة عرس ابنتها فرحاً، والذى ينال تقديراً ما أو جائزة قيمة أو تكريماً طال انتظاره يبكى فرحاً بهذه اللحظة النادرة التى يمر بها، وكذلك الأب عندما يرى نجاح أبناءه وتفوقهم وتميزهم فإنه يبكى فرحاً بهم عندما يرى ثمرة تعبه وأحلامه تتحقق فيهم، فبكاء الفرح خبرة شعورية يمر بها الكثيرون فى حياتهم، وتكون الدموع نوعاً من التعبير عن السعادة والغبطة.
وقد يكون من العجيب أن يقترن الفرح بالبكاء، والسعادة بالدموع، ولكنها حكمة الله الذى أضحك وأبكى أن تكون الدموع فى هذه الحالة استثناء يدل على الفرح والسرور لا على الحزن واليأس، فسبحان من بيده مفاتيح السعادة والشقاء، وأسباب الضحك والبكاء.
بكاء الخديعة والكذب والبكاء ليس دائماً صادقاً، أو نابعاً من عاطفة نبيلة، فهناك بكاء كاذب غرضه الخداع وإيهام الناس بما يخالف الحقيقة، وما أبلغ تصوير القرآن الكريم لهذا النوع من البكاء فى قصة أخوة سيدنا يوسف عليه السلام، حيث يقول عز وجل مخبراً عن ذلك: (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ 16 قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ 17 وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ 18) يوسف: 16-18.
فهم يبكون تصنعاً ليوهموا أباهم بما يريدون، والبكاء هنا نوع من الكذب لا يصدر عن عاطفة حقيقية، وإنما هدفه الخداع والتضليل، وهذا البكاء الخادع قد ينطلى على كثير من الناس فيصدقونه ويتعاطفون مع صاحبه، ولكن المؤمن الفطن لا ينخدع بهذه الدموع الزائفة، وظهرت هذه الفطنة فى رد أبيهم عليهم (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا).
وكثيرة هى المشاهد التى نراها لهذا النوع من البكاء فى حياتنا، فالمتسول الذى قد يعترض طريقك باكياً مستعطفاً مستدراً لإحسانك غالباً ما يكون كاذباً، والمرأة التى تحاول السيطرة على زوجها واستدرار عطفه بدموعها غالباً ما تكون خادعة، بل أن القاتل أحياناً ليبكى على ضحيته خداعاً للناس وإيهاماً لهم ببراءته وصدقه
وفى الأمثال العامية المصرية نجد مثلاً رائعاً يقول (ضربنى وبكى، وسبقنى واشتكى) فالمعتدى الظالم يتخذ من دموعه وسيلة لخداع الناس وإيهامهم بعكس الحقيقة ليظنوا أنه المظلوم لا الظالم، وكما قلنا فإنه كثيراً ما تنطلى هذه الدموع الزائفة والبكاء الخادع على كثير من الناس!!.
بكاء السماء والأرض والسماوات والأرض تبكيان على العبد المؤمن إذا مات وأنقطع عمله، وقد ورد ذكر بكاء السماء والأرض فى القرآن الكريم فى قوله عز وجل: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 25 وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ 26 وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ 27 كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ 28 فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ 29) الدخان: 25-29، قال الحافظ أبو يعلى الموصلى فى مسنده عن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد إلا وله فى السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه)، قال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، قال: فقلت له أتبكى الأرض؟ فقال: أتعجب؟! وما للأرض لا تبكى على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكى على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوى كدوى النحل؟، وقال قتادة فى هذه الآية: كانوا أهون على الله عز وجل من أن تبكى عليهم السماء والأرض.
البكاء من خشية الله وأفضل أنواع البكاء وأكرمها على الله عز وجل ما كان من خشيته وخشوعاً لآياته وخضوعاً لقدرته تبارك وتعالى، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الباكين من خشيته الخاشعين له، يقول عز وجل: (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً 108 وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا 109) الإسراء 107-109. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التميمى أنه قال – تعليقاً على هذه الآية – إن من أوتى من العلم ما لم يُبكِهِ لخليق أن قد أوتى من العلم ما لا ينفعه، لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ).
ويقول الله عز وجل بعد ذكر طائفة من الأنبياء: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) مريم: 58، فما أعظمه من بكاء، وما أجلها من دموع تلك التى تعلن صراحة الخشوع لله والخضوع له والمسكنة إليه رغباً ورهباً وشوقاً وحبا.
وقد جاء فى مدح البكاء من خشية الله تعالى أخباراً كثيرة، فقد روى الترمذى عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس فى سبيل الله تعالى)، وأخرج البيهقى والأصبهانى عن أنس رضى الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (وقودها الناس والحجارة) فقال: (أوقد عليها ألف عام حتى أحمرت، وألف عام حتى أبيضت، وألف عام حتى أسودت، فهى سوداء مظلمة لا يُطفأ لهيبها)، قال: وبين يدى رسول الله رجل أسود فهتف بالبكاء، فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: من هذا الباكى بين يديك؟ إن الله عز وجل قال: (وعزتى وجلالى وارتفاعى فوق عرشى لا تبكى عين عبد فى الدنيا من مخافتى إلا كثرت ضحكها فى الجنة). وأخرج البيهقى أيضاً عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: لما نزلت (أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون) النجم: 59-60، بكى أصحاب الصُفّة حتى جرت دمعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله حسهم بكى معهم، فبكينا ببكائه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مُصِرٌّ على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم)، فما أجلها من دموع تلك التى يكون جزائها عتق من النيران، وفوز بالجنان، ونيل رضا الرحمن.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثير البكاء عند سماع القرآن، عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال لى النبى صلى الله عليه وسلم: (أقرأ علىَّ القرآن) فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟، قال: (إنى أحب أن أسمعه من غيرى) فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال: (حسبك الآن) فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. (متفق عليه).
وكان الصحابة رضوان الله عليهم كثيرى البكاء من خشية الله، تجرى دموعهم على خدودهم وتبتل بها وجوههم ولحاهم خشية لله وخشوعاً وطمعاً فى رحمته وإشفاقاً من عذابه، يروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان فى وجهه خطان أسودان مثل الشراك من البكاء، وعن الحسن قال: كان عمر بن الخطاب يمر بالآية من ورده بالليل فيبكى حتى يسقط ويبقى فى البيت حتى يعاد للمرض، وعن ابن عباس قال: رأيت عمر نشج حتى اختلفت أضلاعه (أى من البكاء)، وعن أبى عثمان النهدى أن عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت وهو يبكى وبقول: اللهم إن كنت كتبتنا عندك فى شقوة وذنب فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعلها سعادة ومغفرة، وعن ابن عمر قال: غلب عمر بن الخطاب البكاء وهو يصلى بالناس صلاة الصبح فسمعت حنينه من وراء ثلاثة صفوف.
وأخرج الترمذى عن هانئ مولى عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكى وتذكر القبر فتبكى؟ فقال: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج فما بعده أشد). وأخرج ابن سعد وأبونعيم عن مسلم بن بشر قال: بكى أبو هريرة رضى الله عنه فى مرضه، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قال: أما أنى لا أبكى على دنياكم هذه، ولكنى أبكى لبُعد سفرى وقلة زادى، أصبحت على صعود مهبطه على جنة ونار، ولا أدرى إلى أيهما يسلك بى.
بكاء الندم بكاء الندم أشد أنواع البكاء مرارة وقسوة على النفس، فهو اعتراف بالعجز والذنب والتقصير وظلم النفس أو الغير، فالعبد المذنب عندما يتوب يبكى ندماً على ذنبه، بل إن الفقهاء جعلوا البكاء ندماً دليلاً على صحة التوبة وقبولها، واعتبروا جمود العين دليلاً على عدم الصدق فى التوبة.
وعادة ما يندم الإنسان كثيراً فى حياته، فهو يندم على ما فعله من أمور كان يجب ألا يفعلها، ويندم على ما لم يفعله من أمور كان يجب عليه فعلها، وهو يندم على ضياع الفرص من بين يديه هباءً، ويندم على ضياع عمره منه بلا طائل، ويندم على فعل السيئات، كما يندم على فعل المعروف فى غير أهله، وهو يعبر عن كل هذا بالبكاء، ودموعه هنا هى دليل الندم.
وقد نبه القرآن الكريم أنه يجب على الغافل المسرف على نفسه أن يبكى على ما قدم بدلاً من أن يضحك، يقول عز وجل: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ 81 فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 82) التوبة: 81-82، ويقول أيضاً: (أَزِفَتْ الْآزِفَةُ 57 لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ 58 أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ 59 وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ 60) النجم 57-60. وفى الحديث النبوى الذى رواه الترمذى عن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال: (أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وأبكِ على خطيئتك). فيجب على الإنسان أن يبكى ندماً على ما قدم، وعلى إسرافه فى حق نفسه، وفى حق الله، فهذا البكاء دليل على صدق الندم، وهذه الدموع تطهير لقلب صاحبها ونفسه.
وأخـيراً .. أبكـوا تصـحـوا!! ومما سبق يتضح لنا أن للبكاء صور عديدة ووظائف كثيرة، وأنه غالباً ما يكون نوعاً من التنفيس والتفريج عن النفس المثقلة بالهموم، والقلب المكلوم المفعم بالأسى، فدموع الإنسان راحة لقلبه وسكن لنفسه وترويح عن أعصابه، والبكاء وسيلة فعالة لاستعادة الإنسان لهدوئه واتزانه النفسى، وهو نعمة كبرى من نعم الله عز وجل، وآية من آياته سبحانه فى النفس البشرية، ولولاه لمات الإنسان كمداً، ولأضحت حياته جحيماً من كثرة الضغوط والهموم، فسبحان من جعل من البكاء نعمة، ومن الدموع شفاء، وما أجمل قول الشاعر عن تقلب الإنسان ما بين الضحك والبكاء:
ولدتـك أمك يا ابن آدم باكيـاً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل ليوم أن تكون إذا بكوا فى يوم موتك ضاحكاً مسـرورا فلنحافظ على نعمة الله ولا نجحدها، ولنترك لأنفسنا العنان فى البكاء كلما أحسسنا بحاجتنا إليه، ولنعلم أطفالنا أن يبكوا عندما يشعرون بالحاجة للبكاء، فما كانت الدموع يوماً عاراً على صاحبها، وما كان البكاء يوماً عيباً نخجل منه، وكيف نخجل من نعمة مَنَّ الله بها علينا رحمة منه بنا وتخفيفاً منه عز وجل عن نفوسنا المتعبة، فيجب ألا نخجل من دموعنا أبداً، فهى دليل على سواءنا العاطفى، واتزاننا الانفعالى، وصحتنا النفسية، وحتى لو كانت الدموع دليلاً على الضعف فإنه خير لنا أن نبكى ضعفاً من أن نموت كمدا.