بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين،
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول
الشهوات إلى جنات القربات .
كل إنسان لو أراد شيئاً عنده الإمكانات الكافية لتحقيق هذا الشيء :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الثالث عشر من
دروس شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، ولازلنا في أرجحية عقل النبي عليه
الصلاة والسلام.
أيها الأخوة الكرام، بادئ ذي بدء المؤمن كيس
فطن حذر، وقد يقول أحدكم: هل هناك توزيع للذكاء بين عباد الله؟ النظرية
القديمة هناك إنسان ذكي، و إنسان أقل ذكاء، و إنسان محدود، لكن النظرية
الحديثة تؤكد أن في الإنسان طاقات مخبوءة، إما أن تفكر، أو ألا تفعل، فكل
إنسان لو أراد شيئاً عنده الإمكانات الكافية لتحقيق هذا الشيء، والدليل:
﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ
ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا *
وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا* كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾
[سورة الإسراء: 18-20]
أي لو أردت شيئاً أعطاك الله إمكاناته، لو
أردت شيئاً أعطاك الله مقوماته، لو أردت شيئاً أعطاك الله أسبابه، فلذلك
ألغي موضوع الذكاء وعدم الذكاء وبقي موضوع من كان صادقاً في طلب شيء أعطاه
الله مقوماته.
الحوار المنطقي والهادئ واللطيف طريق الإنسان لدخول الآخرين في الدين :
يقال إن حصين والد عمران بن حصين كان يعبد
سبعة أصنام في الجاهلية، ويرى أنها آلهة، وكان مُعظماً في قريش، فجاؤوا
إليه وقالوا له: كلم لنا هذا الرجل ـ يقصدون النبي عليه الصلاة والسلام ـ
فإنه يذكر آلهتك، ويسبها، وجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي عليه
الصلاة والسلام، دققوا في رجاحة عقل النبي فقال النبي عليه الصلاة والسلام:
أوسعوا للشيخ، أي الغلظة والاستعلاء ليست من صفات المؤمن، يعبد سبعة أصنام
في الأرض فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام قال: أوسعوا للشيخ، فقال
حصين للنبي بضمير المفرد: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا؟ فقال
النبي عليه الصلاة والسلام: يا حصين كم تعبد من إلهٍ ؟، قال: سبعاً في
الأرض وواحداً في السماء، أي ثمانية، فقال عليه الصلاة والسلام: فإذا مسَّك
الضر من تدعو؟ فقال حصين: أدعو الذي في السماء، قال: فإذا هلك المال من
تدعو؟ قال: أدعو الذي في السماء، قال عليه الصلاة والسلام: فيستجيب لك وحده
وتشركهم معه؟ في الشدة تدعو الذي في السماء يستجيب لك الذي في السماء
وتشركهم معه، هذا الكلام معقول؟ أرضيته في الشكر وتجعلهم آلهة معه في
الأرض؟ أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟ فقال حصين: لا واحدة من
هاتين، فقال عليه الصلاة والسلام: يا حصين أسلم تسلم، فقال: إني لي قوماً
وعشيرةً، لو قلت كما تطلب مني لفقدت مكانتي.
طبعاً هذه مشكلة، الأديان الأخرى صدقت بالنبي
الكريم لكنها لم تعترف به خوفاً على مركزها، وعلى مكتسباتها، فقال ماذا
أفعل بحالي؟ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: قل اللهمَّ أستهديك لأرشد
أمري، وزدني علماً ينفعني، فقالها حصين، فلم يقم حتى أسلم.
انظر إلى الحوار المنطقي، والهادئ، واللطيف،
وتكريمه، أوسعوا للشيخ، عمران ابنه، فقام إليه عمران ابنه فقبَّل رأسه،
ويديه، ورجليه أمام النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى النبي هذا بكى،
وقال: بكيت من صنيع عمران، دخل حصين أبوه وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم
يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقَّه فدخلني من ذلك الرقة.
عندما دخل حصين على النبي كان ابنه موجوداً ما
قام له، ولم يلتفت له، لأنه كافر، فلما أسلم قام فقبَّل رأسه، ويديه،
ورجليه، هذه النقلة الكبيرة.
شمائل النبي عليه الصلاة والسلام منهج تفصيلي لنا :
أيها الأخوة الكرام، لماذا نتحدث عن شمائل
النبي عليه الصلاة والسلام؟ لأنها منهج تفصيلي، يجب أن تكرم من كان في قومه
كريماً، أوسعوا للشيخ، يجب أن تحاور حواراً منطقياً، يجب ألا تستعلي عمن
تحاور، يجب أن تكرم من تحاور، بالحوار الهادئ، المنطقي، الواضح، الذي فيه
أسئلة وتعليقات، هذا حصين أسلم، بالمناسبة نحن لا يوجد عندنا عداوة ثابتة،
أنت لا تكره الكافر تكره عمله فقط، فإذا أسلم الكافر صار أقرب الناس إليك،
والدليل أن أحد الأشخاص اسمه عمير بن وهب التقى مع صفوان بن أمية خارج مكة،
فقال له عمير: والله يا صفوان لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها، ولولا
أولاد أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه، فصفوان
استغلها استغلالاً فقال: أما ديونك فهي عليّ بلغت ما بلغت، وأما أولادك فهم
أولادي ما امتد بهم العمر، فامضِ لما أردت، عندئذ سقى سيفه سماً، ووضعه
على عاتقه، وتوجه إلى المدينة، ليقتل محمداً، لما وصلها رآه عمر ـ رضي الله
عنه ـ وقال: هذا عدو الله عمير جاء يريد شراً، قيده بحمالة سيفه، وساقه
إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أما النبي فقال: يا عمر، أطلقه، ادنُ مني
يا عمير، قال له: سلم علينا، قال له: عمت صباحاً يا محمد بكل غلظة، قال :
ما الذي جاء بك يا عمير ؟ قال: جئت أفك أسر ابني، قال له: وهذه السيف التي
على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال له: ألم تقل
لصفوان لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها، ولولا أولاد أخشى عليهم العنت من
بعدي لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه؟ فوقف عمير وقال: أشهد أنك رسول الله
لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله، وأنت رسوله،
وأسلم.
الشاهد هنا، يقول سيدنا عمر: دخل عمير على
رسول الله والخنزير أحب إليّ منه، وخرج من عنده وهو أحبّ إليّ من بعض
أولادي، بالإسلام لا يوجد عداوة ثابتة هذا الذي تكره، تكره عمله، تكره
كفره، تكره لؤمه، تكره معصيته، فإذا رجع إلى الله فهو أخوك.
الحوار الهادئ والنفس الهادئة والكلام المنطقي من شمائل النبي عليه الصلاة والسلام :
شاب غير منضبط التقى النبي عليه الصلاة
والسلام فقال له: ائذن لي بالزنا، تصوروا إنساناً يقابل وزير داخلية ويقول
له: اسمح لي بالقتل، هذا فيه تحدٍّ، الصحابة قاموا إليه فقال عليه الصلاة
والسلام: لا، قال: يا عبد الله أترضى أن يزني الناس بأمك؟ احمر لون وجهه،
فقال: لا. قال: كذلك الناس يكرهون هذا، قال: أترضى أن يزني الناس بأختك؟
بابنتك؟ بعمَّتك؟ بخالتك؟ فقال: لا، قال: دخلت على رسول الله وما من شيءٍ
أحب إلي من الزنا، وخرجت من عنده وما شيء أبغض إليَّ منه.
معنى ذلك أن الحوار الهادئ، والنفس الهادئة،
والكلام المنطقي، هذا من شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، لا تكن عنيفاً،
حاور، ناقش، أدلي بالبرهان، أدلي بالبينة.
أيها الأخوة، من رجاحة عقل النبي عليه الصلاة
والسلام، اختلفت القبائل على من يمسك الحجر الأسود عند بناء الكعبة، وكادت
أن تنشب فتنة كبيرة، فماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام ؟ جاء برداء ووضع
الحجر بيده الشريفة في الرداء، وأمر كل رأس قبيلة أن يحمل طرفاً من
الرداء، هم جميعاً حملوا الحجر، فلما وصلوا إلى مكانه أمسكه النبي بيده
ووضعه في مكانه.
الحكمة أكبر عطاء من الله عز وجل :
أيها الأخوة الكرام، لأن تؤتى الحكمة، لعل الحكمة أكبر عطاء من الله:
﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً ﴾
[ سورة البقرة: 269 ]
بالحكمة تسعد بزوجة من الدرجة الخامسة، ومن
دون حكمة تشقى بزوجة من الدرجة الأولى، أنت بالحكمة تتدبر المال القليل،
ومن دون حكمة تبدد المال الكثير، أنت بالحكمة تجعل العدو صديقاً، من دون
حكمة تجعل الصديق عدواً، الحكمة شيء ثمين هذه تؤتى بالصلاة، لقوله تعالى:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ ﴾
[ سورة العنكبوت: 45 ]
ذكر الله لك وأنت في الصلاة أكبر من ذكرك له،
إنك إن ذكرته أديت واجب العبودية، لكنه إذا ذكرك منحك الحكمة، أنت ضيف في
بيت الله لا يوجد ضيافة أبداً، لكن أنت إذا أتيت بيت الله يمنحك الله
الحكمة، يمنحك الحلم، يمنحك الرضا، يمنحك التوفيق، يمنحك الثبات، يمنحك
السكينة، يمنحك السعادة، هذه عطاءات لا تقدر بثمن، والإنسان أحياناً إذا
كان بعيداً عن الله كما يقال يخرب بيته بيده، يرتكب حماقة ما بعدها حماقة،
فإذا كنت مع الله آتاك الحكمة، آتاك المنطق، آتاك السكينة، آتاك الوقار،
آتاك الرضا، آتاك الحلم.
النبي عليه الصلاة والسلام راجح العقل وعلّم أصحابه رجاحة العقل :
من رجاحة عقل النبي عليه الصلاة والسلام أنه أمر بعض أصحابه أنْ يتعلَّموا السريانيَّة، لأنه من تكلم لغة قوم أَمِن مكرهم.
و روى الإمام أحمد وغيره عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ:
(( لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ
ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا، وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ، وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ،
فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا سَارَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ، وَبَدْرٌ بِئْرٌ،
فَسَبَقَنَا الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهَا، فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ
مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ،
فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ، وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ
فَأَخَذْنَاهُ فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ: كَمْ الْقَوْمُ؟ فَيَقُولُ هُمْ
وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ، فَجَعَلَ
الْمُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: كَمْ
الْقَوْمُ؟ قَالَ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ،
فَجَهَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُ
كَمْ هُمْ ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَأَلَهُ كَمْ يَنْحَرُونَ مِنْ الْجُزُرِ؟ فَقَالَ: عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْمُ
أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ))
[أحمد وغيره عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
تقصى المعلومات قبل أن يواجه، الآن بعلم النفس
أحياناً موضوع واحد نسأله بعشرة أساليب، فإذا أحب إنسان أن يكذبَ يكذب
بأول أسلوب، وبالثاني، و مع ذلك لابدّ من أن يتكلم الحقيقة بسؤال حول
الموضوع نفسه لكن بصيغة ثالثة، فإذا تكلم ببعض الأجوبة بخلاف الأولى تبين
الحقيقة، فالنبي سأله:
((كَمْ يَنْحَرُونَ مِنْ الْجُزُرِ فَقَالَ عَشْرًا
كُلَّ يَوْمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ))
هم بالحقيقة كانوا ألفاً، النبي عليه الصلاة
والسلام في بدر عرف أن المؤمنين كانوا ألفاً، وكانت الرواحل ثلاثمئة، فقال:
كل ثلاثة على راحلة، وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، سوى نفسه مع أقل
جندي، ركب الناقة فلما جاء دوره في المشي توسلا صاحباه أن يبقى راكباً
فقال: ما أنتما بأقوى مني على السير ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر.
كان النبي عليه الصلاة والسلام راجح العقل،
وعلّم أصحابه رجاحة العقل، بمعركة الخندق هكذا أمر النبي عليه الصلاة
والسلام، أمر سيدنا حذيفة بن اليمان أن يذهب إلى معسكر الأعداء في معركة
الخندق، هناك تضحية كبيرة قد يقتل، دخل، وجلس، وأمره أن لا يحدث شيئاً حتى
يأتيه، وفي رواية: اذهب وائتِ بخبر القوم ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني.
تصور مجنداً ينتقل إلى معسكر العدو، قال: شعر
أبو سفيان أن هناك أشخاصاً غرباء يستمعون، فقال: كلٌ منكم يتفقَّد صاحبه،
فكان سريع البديهة ـ سيدنا حذيفة ـ أمسك بيد جاره وقال له: من أنت؟ طبعاً
هذا ذكاء ورجاحة عقل.
الملخص المؤمن كيس فطن حذر، إنسان ضعيف في اللغة قرأها: المؤمن كيس قطن،
قال له طالب: ما كيس قطن؟ قال له: يا بني قلبه أبيض ولين بالمعاملة.
قصة نعيم بن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم :
الآن دققوا، نعيم بن مسعود زعيم قبيلة غطفان،
وفي الحقيقة ما اجتمع عشرة آلاف مقاتل في الجزيرة إلا في الخندق، جاؤوا
ليستأصلوا المسلمين، بالتعبير المعاصر حرب إبادة.
نعيم بن مسعود زعيم قبيلة غطفان، وهو في خيمته
في الليل ساوى حواراً ذاتياً، هذا يسمى بالمسرحيات مونولوج، يخاطب نفسه،
قال: يا نعيم ما الذي جاء بك إلى هنا؟ جئت لتحارب هذا الرجل الصالح؟ معروف
أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أميناً صادقاً، ماذا فعل هذا الرجل يا
نعيم؟ هل سفك دماً، هل نهب مالاً؟ قال: لا ، هل انتهك عرضاً؟ قال: لا، أين
عقلك؟ وقف وتوجه إلى معسكر النبي عليه الصلاة والسلام، دخل على النبي فلما
رآه النبي دهش، قال: نعيم؟ قال: نعيم، قال له: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال:
إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت يا رسول الله، فقال
عليه الصلاة والسلام: إنما أنت فينا رجلٌ واحد.
عشرة آلاف جاؤوا ليبيدوا النبي عليه الصلاة
والسلام، حتى من كان مع النبي عليه الصلاة والسلام قال : أيعدنا صاحبكم أن
تُفْتَح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟ قال تعالى:
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا
زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾
[ سورة الأحزاب: 11-12 ]
﴿ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلا ﴾
[ سورة الأحزاب: 23 ]
موقف عصيب،
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾
فالنبي نظر فقال له: إنما أنت فينا رجل واحد
فخِّذل عنا إن استطعت، إن الحرب خدعة، فاذهب فشتِّت جموع العدو، وألقِ
بينهم بدهائك، تصور معركة إبادة، معركة استئصال، معركة حاسمة، معركة
مصيرية، إنسان يتمكن أن ينهي هذه المعركة لصالح النبي عليه الصلاة والسلام،
كيف؟
أثر إسلام نعيم بن مسعود في قلب موازين معركة الخندق :
خرج سيدنا نعيم بن مسعود زعيم قبيلة غطفان
حتى أتى بني قريظة وهم طائفة اليهود، وكان لهم نديماً من قبل، هم ما عرفوا
أنه مسلم، قال: قد عرفتم ودي إياكم وخاصَّةً ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت
لست عندنا بمتَّهم، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ـ أي ليسوا
مثلكم ـ البلد بلدكم، به أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم، ولا تقدرون أن
تتحوَّلوا منه إلى غيره، وإنهم جاؤوا لحرب محمدٍ وأصحابه، وقد ظاهرتموهم
عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا فرصة أصابوها، وإن كان غير
ذلك لحقوا ببلادهم، وتركوكم لمحمد فينتقم منكم، ولا طاقة لكم بمحمد، وهذا
كلام منطقي.
قريش وغطفان إذا انتصروا انتصروا، و إن لم
ينتصروا عادوا إلى بلدهم وتركوكم لمحمد ولا قِبَل لكم به، فأنصحكم ألا
تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم.
ثم أتى قريشاً وقال لأبي سفيان ومن معه: قد
عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغي أمراً رأيته حقاً عليَّ أن
أبلغكموه، نصحاً لكم فاكتموه عني، قالوا: نفعل، قال نعيم: إن اليهود ندموا
على ما صنعوا، وأرسلوا إلى محمدٍ إنا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن
نأخذ من أشراف قريش وغطفان رجالاً تضرب أعناقهم كرهائن، ثم نكون معك على من
بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم محمد أن نعم، قال نعيم: فإن بعثت
إليكم اليهود يلتمسون إليكم الرهائن فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً.
ما هذا الذكاء؟! اليهود متفقة مع قريش وغطفان
على استئصال المسلمين، ثم نعيم أتى غطفان وقال: إنكم أصلي وعشيرتي، وأحب
الناس إليّ، ولا أراكم تتهمونني، أي بل أنا مصدقٌ عندكم، فقالوا: صدقت وما
أنت عندنا بمتهم، فقال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل. فقال لهم مثلما قال
لقريش.
وكان من صنع الله أن أبا سفيان ورؤوس غطفان
أرسلوا إلى اليهود من بني قريظة في نفرٍ من القبيلتين: إنا لسنا بدار
مُقام، وقد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمداً، فأرسلوا
إليهم: إن اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً، وكان قد أحدث فيه ـ أي في
السبت ـ بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم، ولسنا بمقاتلين معكم حتى
تعطونا من رجالكم رجالاً يكونون بأيدينا ثقةً، حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى
إن اشتدَّ عليكم القتال أن ترجعوا إلى بلادكم، وتتركونا ومحمداً.
فهذا إنسان واحد بذكاء بارع أوقع بين
الفريقين، وجعل بعضهم يتهم بعضاً، وانشقت صفوفهم، وتفرقوا، وهذا الذي فعله
أيضاً مع بني قريظة، إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا
عليهم وخذَّل الله بينهم، وبعث الله عليهم الرياح في ليالٍ شديدة البرد،
فأكفأت قدورهم، وطرحت أبنيتهم.
والله جميل أن يكون المؤمن ذكياً، المؤمن كيس فطن حذر، هذا من شمائل النبي، من أرجحية عقل النبي عليه الصلاة والسلام.
الموضوع العلمي :
الحمام الزاجل :
ننتقل إلى الموضوع العلمي، أيها الأخوة
الكرام، قال: الحمام الزاجل أول وكالة أنباء في التاريخ، إن حمام الرسائل
الحمام الزاجل يزيد عن خمسمئة نوع، هذا الحمام يمتاز بحدة الذكاء، والقدرة
الفائقة على الطيران، والغريزة القوية، التي يهتدي بها إلى هدفه وموطنه،
وهو حيوان مستأنس وأليف، قال تعالى :
﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ﴾
[ سورة يس: 42 ]
الحمام الزاجل من أكبر الآيات الدالة على عظمة الله عز وجل :
من ذلل هذا الطائر؟ من جعله حاد الذكاء؟ من
أعطاه قدرة فائقة على الطيران؟ من أعطاه غريزة قوية يهتدي بها إلى هدفه؟ إن
الحمام الزاجل يقطع مسافة ألف كيلو متر من دون توقف في طيران مستمر،
يقطعها بسرعة كيلو متر بالدقيقة، أي يقطع ستين كيلو متراً بالساعة، ويعطي
هذا الحمام الزاجل في العام تسعة أزواج من الزغاليل، هل هناك أحد منا اشترى
سيارة وجد بعد سنة أمامها سيارة صغيرة؟ ويعينك على نقل رسائلك عبر الآفاق،
ويهتدي إلى إيصالها بسرعة فائقة بالقياس إلى ذلك الزمان.
لذلك نور الدين الشهيد استخدم الحمام بين دمشق
والقاهرة، وكان ينقش اسم السلطان على منقار هذا الحمام، وكان له ورق خاص
يحمله لينقل به الرسائل، هذا الورق وزنه خفيف، وكان يستخدم هذا السلطان
ألفين من الحمام الزاجل لنقل أوامره إلى عماله في الأمصار.
الله تعالى يتولى بذاته العلية هداية هذا الطائر إلى مستقره :
هناك لغز كبير لهذا الحمام يحير الباحثين،
العلماء يتساءلون كيف يستدل الحمام على طريقه الطويل في السفر؟ طبعاً
الحمام الزاجل كما قلت قبل قليل يعد أول وكالة أنباء في التاريخ، كان
يستخدم عند الشعوب كالإغريق، واليونان، والرومان وعند العرب، وفي كل
العصور، فقد كان يستخدم لنقل الرسائل، وإيصال الأنباء، وقد استخدمته بعض
الدول الغربية كهولندا لإبلاغ الأوامر إلى سومطرة بجنوب شرق آسيا، تصور
هولندا في غرب إفريقيا تستخدم الحمام الزاجل لنقل أوامرها إلى سومطرة،
المسافة بينهما سبعة عشر ألف كيلو متر، هناك طائر يطير سبعة عشر ألف كيلو
متر إلى هدفه معه رسالة، الطيار عنده إحداثيات، عنده أقمار صناعية، عنده
اتصالات دائمة تحدد له موقعه، لا يوجد طيار في الأرض يتمكن أن يقود طائرته
بعيونه، بالإحداثيات، بالاتصالات، بكل ما يعينه على ما يقود الطائرة.
لذلك العلماء احتاروا يا ترى يحفظون التضاريس؟
ليس كذلك، يتحركون وفق مغناطيس معين؟ ليسوا كذلك، لا يوجد نظرية طرحت
وكانت مقنعة، إلا أن الله عز وجل يمسك بالطير و يقوده إلى أهدافه، الآية:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ ﴾
[ سورة الملك: 19 ]
طائر يذهب من هولندا إلى سومطرة ؟ هناك بحار، هناك جبال، هناك صحارى، هناك سهول، معه رسالة وتصل هذه الرسالة؟
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾
[ سورة لقمان: 11 ]والحمد لله رب العالمين