بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين،
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما
ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه،
وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون
أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون... مع الدرس الثامن
والعشرين من دروس شمائل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد وصلنا في الدرس
الماضي إلى المنهج الذي رسمه النبي للعابدين.
وأساس هذا الدرس أنه ينبغي لك أن تعبد الله،
ولكن حينما تعبده ينبغي لك أن تعبده وفق توجيهاته، لا وفق توجيهاتٍ لا
تمتُّ لهذا الدين بصلة، يجب أن تعبد الله، وأن تعبد الله وفق منهجه.
أيها الإخوة... قبل أن أدخل في الموضوع أريد
أن أنوِّه إلى أن المنهج التعبدي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، هو
المنهج الأكمل الذي يصل بك إلى أعلى مراتب الإيمان، وأعلى مراتب القُرب،
فإذا بحثت عن منهجٍ آخر من أجل أن تصل به إلى أعلى المراتب تكون واهماً،
لأن المنهج النبوي هو أكمل منهج، ولذلك أيَّة فرقة دينية، أو أية طريقةٍ من
الطُرُق تكلّف طالب العلم بغير ما كلَّف به النبي أصحابه، فهذه طريقة
مرفوضة، لأنها تخالف منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعبُّد، فيجب
أن نعبد الله، ويجب أن نعبده وفق ما أمر، لا وفق أمزجتنا، ولا وفق
اجتهاداتنا، فكل شيءٍ في الدين لا ينبُع من سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فهو بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
هذا الدرس أيها الإخوة أعلق عليه أهميةً كبيرة... روى الشيخان عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا
كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا - أي رأوها قليلةً بالنسبة لما ينبغي لهم -
فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ
قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا
وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا
أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ
قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ
وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ
وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))
إنه منهج واقعي، وسطي، متوازن، هذا النهج
الواقعي، الوسطي، المتوازن، ينقلك إلى أعلى مراتب الإيمان، أما إذا أردت أن
تزيد فقد وقعت في الفتنة.
ومرةً أحد التابعين أراد أن يُحْرِم قبل
الميقات، فقال له صحابيٌ جليل: لا تفعل. قال: ولمَ ؟ قال: تفتن، قال: وكيف
أُفتن ؟ قال: وأي فتنةٍ أكبر من أن ترى نفسك سبقت رسول الله!!
لا تحاول أن تعمل مزايدة على رسول الله، فالذي
أعطاك إيَّاه هو الأكمل، فكل إنسان يحاول أنْ يبتدع منهجًا جديدًا ا في
العبادة غير منهج النبي اللهم صلِّ عليه، فيه زيادة، وهذه الزيادة هي
مزايدة، وهذه الزيادة ربما تمنعه من متابعة السير، فالمنهج الذي يسع الناس
جميعاً هو منهج رسول الله، إنه المنهج الذي يرقى بالناس جميعاً هو منهج
رسول الله، والعبادة التي تسمو بالناس جميعاً هي عبادة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، لذلك أيّة فرقةٍ أو أي طريقةٍ تضع منهجًا آخر غير منهج النبي
عليه الصلاة والسلام، فإنما تغلوا في الدين، قال تعالى:
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾
( سورة المائدة: من آية " 77 " )
يقول عليه الصلاة والسلام:
(( أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ
وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ
وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))
(متفق عليه)
أول نقطة في منهج النبي عليه الصلاة والسلام التعبدي، الآن الدرس عبارة عن نقاط.
النقطة الأولى: كان عليه الصلاة والسلام إذا
عمل عملاً أثبته وداوم عليه، و فأول نقطة في العبادة التي يريدها النبي
عليه الصلاة والسلام الثبات والاستمرار، فأنت أول تطبيق ؛ تريد أن تصلي، صل
الصلوات التي يمكن أن تستمر عليها، ولا تجعل حياتك فورة ثم تنطفئ، تكون في
إقبال شديد ثم تبتعد، وفي غليان ثم تبرد، فهذا منهجٌ لا يدوم، وهذا منهجٌ
فيه نكساتٌ خطيرة، والشيء الذي تفعله يجب أن تداوم عليه.
و أول نقطةٍ في منهج النبي عليه لصلاة والسلام ما روي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
(( كَانَتْ لَنَا حَصِيرَةٌ نَبْسُطُهَا بِالنَّهَارِ
وَنَتَحَجَّرُهَا بِاللَّيْلِ خَفِيَ عَلَيَّ شَيْءٌ لَمْ أَفْهَمْهُ مِنْ
سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ فَقَالَ اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ
مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ حَتَّى
تَمَلُّوا وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا وَكَانَ أَحَبُّ
الْعَمَلِ إِلَيْهِ أَدْوَمَهُ))
(رواه أحمد)
فالأخ أحياناً يقبل إقبالاً منقطع النظير ؛
الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ودرس الجمعة، والسبت، والأحد،
والاثنين، وزيارات خاصة، وإقبال شديد، إنه شيء رائع، ثم يختفي، داوم على
الدروس التي بدأت بها، الدوام والمثابرة والثبات، فهذا السلوك هو الذي يرقى
بك، ولا بدَّ من التراكم، فالومضات، والنَوْبات، والفورات كلها لا تفعل
شيئاً ؛ أما الذي يفعل كل شيء فالمداومة والاستمرار والثبات، فعَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ
يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ
إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ))
(متفق عليه)
هذا هو الإرشاد الأول.
الإرشاد الثاني: عبادة تبنى على تضييع الحقوق
هذه ليست عبادة، وعبادة تبنى على إهمال الأولاد ليست عبادة، وعبادة تبنى
على إهمال الزوجة ليست عبادة، وعبادة تبنى على إهمال العمل والتقصير فيه،
وعدم إتقان في الصُنع، ومشكلات مع الناس، وتأخير مواعيد، من أجل أن يصلي
قيام الله، وفي النهار ينام، وعنده مواعيد، وإنجازات، وأعمال، فهذا المنهج
لا يريده الله عز وجل، وأية عبادةٍ تبنى على تضييع الحقوق، وعلى إهمال
الواجبات، وعلى التقصير، وعلى التسيُّب، فهذه ليست عبادة، إنها نقطة مهمة
جداً.
هذه كلها من إرشاداته صلى الله عليه وسلم،
فالزوجة لها حق، والأولاد لهم حقوق وزبائنك الذين منحوك ثقتهم لهم حقوق،
ومن حولك ؛ أمك وأبوك لهم حقوق، لذلك دع خيراً عليه الشر يربو، فدرء
المفاسد مقدمٌ على جلب المنافع.
والنقطة الثانية في منهج رسول الله صلى الله
عليه وسلم التعبُّدي أن العبادة لا تقبل إذا بنيت على تضييع الحقوق، وعلى
إهمال الواجبات، وعلى التقصير في الأعمال، عندئذٍ يغدو هذا المتعبِّد
ممقوتاً عند الناس، مبغوضاً لديهم.
ففي سنن أبي داود عَنْ عَائِشَةَ:
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ يَا
عُثْمَانُ أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي ـ أي يا عثمان أترغب عن سنتي ؟ ـ قَالَ
لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ قَالَ
فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ
فَاتَّقِ اللَّهَ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا
وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا
فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ))
هذا الكلام دقيق، وواضح، لأنّ عبادةٌ تبنى
على إهمال الواجبات، وتضييع الحقوق، والتقصير في الأعمال، والتسيُّب في
الإنجاز، هذه ليست عبادة مقبولة عند الله عز وجل.
وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ
تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ
لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ
لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ
بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ لَكَ
بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ
كُلِّهِ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي
أَجِدُ قُوَّةً قَالَ فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ
السَّلَام وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ قُلْتُ وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ
اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ نِصْفَ الدَّهْرِ فَكَانَ عَبْدُ
اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
(رواه البخاري)
وفي روايةٍ لمسلم:
(( قَالَ قُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ
ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا
وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ
قَالَ قُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ))
قال ابن عمرو ـ الآن اسمعوا الندم ـ:
(( يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
لا تقيِّد نفسك، لا تقيد نفسك بنظام لا تستطيع
تحمُّله، ولا تستطيع المداومة عليه، لا تقيِّد نفسك بنظام تنتكس منه، لا
تقيد نفسك بمنهاج ينفر من العبادة، تتمنى أن تنتهي منها، هذا الصحابي
الجليل الذي نصحه النبي قال له: أطيق أفضل من ذلك. افعل كذا. أطيق أفضل من ذلك. افعل كذا. أطيق أفضل من ذلك. قال ابن عمرو:
(( يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
طبعاً هذا النص في الصحاح، وله روايات كثيرة، من بعض هذه الروايات قال ابن عمرو:
(( فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قَالَ وَقَالَ لِي
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَا تَدْرِي
لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ))
ثلاثة أيام كل شهر، هذه الأيام الثلاثة تعدل صيام ثلاثين يوماً، لأن الحسنة بعشرة أمثالها.
وفي روايةٍ مسلم:
(( وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا))
وفي رواية عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ صَامَ الْأَبَدَ فَلَا صَامَ))
(رواه النسائي)
فليس هذا صوماً.
ومرة ثانية أيها الإخوة، أحياناً هناك لازمة
تتكرر، وأنا سأجعل من هذه الفكرة لازمة تتكرر: المنهج الذي رسمه النبي صلى
الله عليه وسلم للعبادة هو أكمل منهج، وهو الذي يرقى بك إلى أعلى عليين،
ويسمو بك إلى درجة القُرب، لا تحاول أن تخترع منهجاً جديداً لم يرد عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
في روايةٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
(( أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ فَكَانَ
يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ - أب زوج ابنه، تفقد الابن، أحواله، تفقد زوجة
ابنه، لعل هناك تقصير من ابنه، لعل هناك شطط، وكان يتعاهد كنته، أي امرأة
ولده - فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا ـ عن زوجها، أي عن حال زوجها معها ـ
فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ
يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا ـ أي لم يكشف لنا ستراً ـ مُنْذُ أَتَيْنَاهُ
فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ـ أي على الأب، كنته تشكو زوجها لعمها ـ
ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْقَنِي
بِهِ - أي اجمعني معه - فَلَقِيتُهُ بَعْدُ فَقَالَ كَيْفَ تَصُومُ قَالَ
كُلَّ يَوْمٍ قَالَ وَكَيْفَ تَخْتِمُ قَالَ كُلَّ لَيْلَةٍ قَالَ صُمْ فِي
كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ
قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي
الْجُمُعَةِ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَفْطِرْ
يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا قَالَ قُلْتُ أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
قَالَ صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ
يَوْمٍ وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ
رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَاكَ
أَنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ
السُّبْعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالنَّهَارِ وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ يَعْرِضُهُ
مِنْ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَإِذَا أَرَادَ
أَنْ يَتَقَوَّى أَفْطَرَ أَيَّامًا وَأَحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ
كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا فَارَقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ
فِي ثَلَاثٍ وَفِي خَمْسٍ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى سَبْعٍ))
(رواه البخاري)
والإمام النووي يذكر أن هذا الحديث جميع
رواياته صحيحة، وهذا الحديث أصل في المنهج التعبُّدي، وهذه أكثر روايات هذا
الحديث، حديث ابن عمرو في الإكثار من الصلاة، والصيام، والبعد عن النساء، والبعد عن كل ما يمُتُّ به إلى الحياة.
وجاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ
وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ النَّاسُ
يَثُوبُونَ ـ أي يجتمعون عند النبي صلى الله عليه وسلم ـ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ حَتَّى
كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ
الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا
وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ))
وفي روايةٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنْ
اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً
قَالَتْ وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا
إِلَّا رَمَضَانَ))
(رواه مسلم)
وفي روايةٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ
يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ
إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ))
( متفق عليه )
لا زلنا في توجيهات النبي في شأن العبادة، ولكن لي تعليقٌ قبل أن أتابع الدرس.
نحن بحاجة إلى أن نُكثر من العبادة، لماذا ؟
لأن الحد الأدنى ليس متوافراً في هذا الزمان، فالصحابة الكرام أرادوا أن
يزيدوا، فكان عليه الصلاة والسلام يكبح جماحهم، أما الآن فربما لا يجد
الإنسان وقتًا ليصلي الضُحى، أو ليصلي صلاة الأوَّابين، أو ليصلي ركعتين
ليلاً، فأنا أشعر الآن أن إقبال أصحاب رسول الله على العبادة كان منقطع
النظير، فكانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كبح جماح أصحابه، وإرساء
التوازن ؛ أما نحن فقد نحتاج إلى توجيه آخر معاكس، نحتاج إلى توجيه من نوع
آخر ؛ أن نقبل على العبادة كي نصل إلى الحد الأدنى الذي رسمه النبي صلى
الله عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يحذر من المشادَّة
في الدين.. فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ
أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا
وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ))
الغدوة سير أول النهار، والروحة سير آخر
النهار، والدلجة سير آخر الليل، وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم
الغدوة والروحة والدُلجة بمعنى أن الإنسان عليه أن يعبد الله وهو في أعلى
درجات نشاطه، فإذا سافر إنسان فالسفر باكراً منشط، والسفر قبل المغرب، وقت
جميل جداً وقت الأصيل، والسفر في الليل والناس نيام يقطع مسافاتٍ طويلة في
رطوبة، وفي جو لطيف، فالنبي عليه الصلاة والسلام كَنَّى عن أوقات النشاط
بالغدوة والروحة والدلجة، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ
أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا
وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ))
أي ألزموا القصد، والقصد هو التوسُّط، تبلغوا المقصود، الاعتدال.
وأنا أشعر أحياناً أن الإخوة الكرام الذين
يكلفون أنفسهم ما لا يطيقون في البداية ينتكسون، والنكسة خطيرة، أما الذي
يوازن نفسه مع الآخرين، فأحياناً وهذا شيء وقع، طالب علم من شدة إقباله على
الدين ترك الدراسة، لأنه لم يتوازن، فلما ترك الدراسة، ورأى أصدقاءه قد
تفوقوا ونالوا الشهادات العُليا، وتمتعوا بمركز مرموق في المجتمع، فلأنه
سار في طريق الدين أصبح على هامش الحياة، وهذا الشعور بالحرمان يورثه نكسة
كبيرة، فلذلك المنهج المتوسط هو القصدُ، أي الزم التوسط تبلغ القصد، إذْ
بالمنهج المتوسط المعتدل تبلُغ القصد.
وروى الإمام أحمد بسندٍ حسن عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(( عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا فَإِنَّهُ مَنْ
يُشَادَّ ـ طبعاً الفعل المضارع إذا جزم تظهر الفتحة على آخره لخفتها ـ
هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ))
عليكم هدياً معتدلاً، متوسطاً، متوازناً.
و الآن من هو المُتَنَطِّع ؟ المتنطع هو الذي
يبالغ، وبعد المبالغة ينقطع، في نقطة دقيقة جداً قال: ليس المُراد منع طلب
الكمال في العبادة، هذه التوجيهات التي أقولها قد يتوهم بعضكم أن النبي صلى
الله عليه وسلم يمنع طلب الكمال في العبادة، لا والله، ليس المقصود من هذا
المنهج المتوازن، المعتدل، الواقعي، الوَسَطي أن نمنع بلوغ كمال العبادة،
لا، ولكن المقصود منع الإفراط المؤدِّي إلى الملل والانقطاع، أي رُبَّ
أكلةٍ منعت أكلات، فالمبالغة إذا أدت إلى الانقطاع، فهذا هو التنطُّع،
ولذلك: إذا تجاوز الشيء حده انقلب إلى ضده.
والآن مع بعض النتائج السلبية لهذا الإفراط...
إنّ المراد منع الإفراط المؤدِّي إلى التنطُّع
والانقطاع، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم
إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الفجر، أو أخرج الصلاة عن
وقتها المُختار.
وفي الأثر:
(( لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة، وخير دينكم أيسره))
أخ من إخواننا الكرام قال لي: أنا من الواحدة
والنصف إلى الساعة السابعة، درس الفجر حضره نعسان، نائمًا، غير معقول، فوقت
اليقظة، وقت الفريضة، وقت الاستمتاع بمناجاة الله عز وجل تكون منهك القوى
؟! فالاعتدال أولى.
ومرة ثانية، نحن في حاجة إلى الحث على
العبادة، لا إلى كبح جماحها، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابٍ
كرام أقبلوا على الدين إقبالاً منقطع النظير.
العلماء قالوا: الأخذ بالعزيمة في موضع
الرُخصة تنطُّع، أي إذا سمح الله عز وجل لك أن تقصر الصلاة وأنت مسافر،
والوقت ضيق، والسفر بعيد، والمواصلات تنطلق بمواقيت محددة ولن تنتظرك،
والأجرة عالية، وإذا سافر الركب أصبحت بلا رَكب، فالشرع سمح لك أن تقصر
الصلاة، إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، فمن التنطُّع أن
ترفض الرخصة وتأخذ بالعزيمة.
وقد روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ))
وجاء في رواية البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( إن هذا الدين متين فأوغِل فيه برفق، ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى))
من هو المُنْبَت ؟ الذي ركب ناقةً وحملها على السير بسرعة إلى أن وقعت ميتةً.
((... لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى))
(( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى))
ويبدو أن من منهج الله جلَّ جلاله التدرُّج في
رفع مستوى العبادة، فأحياناً بالرياضة يقول لك: تحمية، البدء بتدريبات
عالية جداً ربما سببت نكسة كبيرة، والبدء بتمرين عالي الجهد ربما سبب نكسة
صحية، فثمة شيء اسمه تحمية، وشيء اسمه تبريد، فالحياة واحدة في قوانينها
المادية وقوانينها المعنوية، فينبغي لك أن تبدأ بالتدريج وأن تنتهي
بالتدريج.
وهذا الشيء يجب أن نلاحظه في تربية الأولاد،
فلو حَمَلْتَ ابنك على صلاة الفرائض، والنوافل، وقيام الليل وهو صغير، ربما
كره الصلاة طوال حياته، لا تحمل ابنك على شيء فوق الفريضة، حتى يبدأ في
الدين بالتدرج، فلو حملته على شيءٍ لا يطيقه، أو منعته من اللعب أحياناً،
ويكون الدرس طويلاً، فإنّ ابنك صغير لا يفهم الدرس، فتُجبره على أن يبقى
معك ساعات طويلة، فتضيق نفسه، ويضجر، وينفجر، وتورثه عقدة كراهية المسجد،
فإن كان الدرس طويلاً فلا تحمل ابنك الصغير فوق طاقته، له سن، وسِنّه سن
اللعب، يمكن أن تحمله على ذلك يسيرا، فالقصد ألا تنفر الناس من عبادة
الله، وألا تحمل الناس على أن يكرهوا هذا الدين للقصر عليه.
ومن إرشادات النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان
يحذِّر من الدخول في العبادات على كراهيةٍ أو كسلٍ ؛ بل يدخلها على جدٍ
ونشاطٍ في العمل، فقد جاء في الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
(( دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ مَا
هَذَا الْحَبْلُ قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ ـ أي
كسلت ـ تَعَلَّقَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ
فَلْيَقْعُدْ))
((لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ))
أي ما دام نشيطاً،
(( فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ))
فلينم قليلاً، وإذا كان شعورك بالحاجة إلى النوم، فعندئذٍ الصلاة ليست لها معنى، وقراءة القرآن لا معنى لها.
(( لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ))
وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي
فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا
صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ
نَفْسَهُ))
أن يدعو على نفسه، وهو لا يشعر لثقل نعاسه، أي إذا صلى أحدكم وهو ناعس فليرقد، ولا يدري لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه.
* * * * *
الآن آخر فقرة في الدرس دقيقة جداً يجب أن تنتبهوا إليها.
أيها الإخوة الكرام... ما من أخٍ كريم إلا وفي
أول إقباله على الدين تألق منقطع النظير، وهذه هي الفترة الأولى ؛ حينما
تنتقل نقلةً نوعيةً، من الضياع إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن
التفلُّت إلى الاستقامة، ومن القطيعة إلى الاتصال أجمل أيام الحياة على
الإطلاق، هذه فترة التألُّق، فترة الإقبال، إلا أن الشيء المناسب جداً أن
الإنسان لا له ينبغي أن يمدح في هذه الفترة، لأن هذه الفترة سوف تزول، كيف
استقرت حياته ؟
وهذا التألق في أول الطريق تألُّق لا يدوم،
أما إذا ذهب وتلاشى وعاد إلى ما كان عليه فالمديح في هذه الفترة لا معنى
له، والآن دققوا في هذه الأحاديث.
كان صلى الله عليه وسلم لا يرضيه أن يمدح
الرجل بعباداته حال هجمته الأولى، وشِرَّتِهِ، ونشاطه في بادئ الأمر، حتى
تمضي عليه مدةٌ يستقر أمره.
صدقوني عشرات بل مئات الأشخاص أقبلوا إقبالاً
شديد، واختفوا ولا نعرف عنهم شيئاً، أين هم ؟ هذه هي الشِرَّة، أو الهجمة،
أو الفورة، أو التألُّق، أو البداية، أو الانطلاق، الإقلاع، ولكن البطولة
هي الاستقرار، فأحياناً بالمستوى الاجتماعي يخطب الإنسان فتاة، يمدحها
مديحاً غير معقول، ويقول لك: ملك من السماء، طبعاً الفتاة في أثناء الخطوبة
تبدي أجمل ما عندها من لطف، ونعومة، والزوج الخاطب كذلك، فيظنان أن الحياة
كلها بهذه الطريقة، وبعد الزواج ؛ المشكلات تلو المشاكسات، والنفور
والشقاق، والكلام المرتفع، والكلام القاسي، فأين اللطف والكمال سابقاً ؟
فالبطولة لا في الفترة الأولى لكن في الاستقرار والاستمرار.
فكل واحد في أول طريقه إلى الله انتقل نقلة
مفاجأة، نقلة نوعية، من الضياع إلى الهدى، من الانقطاع للاتصال، ومن الشقاء
للسعادة، ومن الخمول إلى التألُّق، لكنّ البطولة في الاستمرار لا في هذه
الفورة، اسمعوا ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام.
روى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً - الشرة الفورة
والاندفاع - وَلِكُلِّ شِرَّةٍ - وبعد ذلك يفتر - فَتْرَةً فَإِنْ كَانَ
صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ
بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ))
أي بعد الفورة كيف حاله ؟ استقر على الطاعة، الصلاة الصحيحة، والتلاوة، والذكر، نريد فترة الاستقرار لا التألق.
والحديث له روايات كثيرة.
(( لكل عملٍ شرة))
والشِرَّة بكسر الشين المُعجمة وتشديد الراء النشاط والهمة.
وفي روايةٍ ثالثة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:
(( أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ
فَكَانَ لَا يَأْتِيهَا كَانَ يَشْغَلُهُ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ فَذُكِرَ
ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صُمْ مِنْ
كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَ إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُ صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ
يَوْمًا وَقَالَ لَهُ اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ إِنِّي
أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ اقْرَأْهُ فِي كُلِّ خَمْسَ عَشْرَةَ
قَالَ إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ اقْرَأْهُ فِي كُلِّ
سَبْعٍ حَتَّى قَالَ اقْرَأْ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ
شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ
وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ))
(رواه أحمد)
فعندنا فترة تألُّق ثم استقرار، لا تمدح الشخص
إلا في فترة الاستقرار، ولا تمدحه بإقباله، لأن هذا الإقبال موقت،
والإنسان لا يغتر بالمرحلة الأولى، وربنا عز وجل لحكمةٍ أرادها، يرغِّب
الإنسان في البدايات.
إذاً:
(( إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ
فَتْرَةٌ فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ وَمَنْ
كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ))
ويقول سيدنا الصديق: " بكينا حتى جَفَّت مآقينا "،
أول فترة فبكاء شديد، و بعد حين يستقر الإنسان، ويتوازن، فالعبرة والبطولة
في الفترة التالية، فيا ترى استقررت على السنة، ويا ترى هذه الشرة،
والفورة والانطلاقة، والتألق انتهت إلى طاعة الله، فإذا انتهت إلى طاعة
الله فهذا هو الهدى، أما إذا انتهت إلى نكسة، وإلى رجوع عن هذا الطريق،
فهذا هو الهلاك.
وقد أورد الحافظ بن حجر في المطالب العالية قصة مفادها:
(( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا
رسول الله إن ابن أخي قد اجتهد في العبادة وأجهد نفسه. فقال عليه الصلاة
والسلام: تلك شرة الإسلام، ولكل شيءٍ شرة، ولكل شرةٍ فترة، فارقبه عند
فترته، فإن قارب فلعلَّه، وإن هلك فتباً له))
ولذلك فآخر كلمة: ليست البطولة أن تصل إلى
القمة، بل أن تبقى فيها، قد تصل إلى القمة، ولكن البطولة أن تبقى فيها،
فنحن نريد أن نرى إخوةً كراماً بعد فورتهم وإقبالهم وتألُّقهم استقروا على
طاعة الله، واستقروا على طلب العلم، وعلى أداء الحقوق، وعلى الاتصال بالله
عز وجل، أما هذه الشرة فليست هي العبرة، العبرة في المداومة.
وفي درسٍ إن شاء الله نتابع الحديث عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين