بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين،
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما
ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقا، وارزقنا
اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلا، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون
القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس التاسع عشر
من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، و قد وصلنا في الدرس الماضي إلى
خشيته صلى الله عليه و سلم و خوفه منه تعالى.
فقد كان عليه الصلاة و السلام أشدَّ الناس
خشية من الله تعالى، وذلك لأنه أعلمهم بالله، ويجب أن نربط دائما بين
الخشية والعلم، فحجم خشيتك بحجم علمك، وأنت تخشى اللهَ لأنك تعلم مقامه،
ولن تزداد الخشية إلا إذا ازداد العلمُ، ولن يُفسِّر انعدامُ الخشية إلا
بانعدام العلم، وهذه الحقيقة ثابتة في الحياة، الطبيب يزداد خوفُه من
الطعام الملوَّث لأن علمه بالجراثيم، وطرق العدوى شديد، فكما قال عليه
الصلاة و السلام:
((رأس الحكمة مخافة الله))
[ السيوطي في الجامع الصغير عن ابن مسعود]
فإذا شبَّهنا الحكمة بإنسان فرأسها مخافة الله
فإذا ألغيَ الرأسُ أُلغي الإنسان، لذلك كان عليه الصلاة و السلام أشدَّ
الناس خشية من الله تعالى، وذلك لأنه أعلمهم بالله تعالى، و الخشيةُ من
الله تعالى تكون على حسب العلم، ويمكن أن تعدَّ هذه قاعدة ثابتة مطّردة لا
تخيب و لا تتأخَّر، فإن وجدتَ نفسك تتفلَّت من منهج الله فلا بد أن تَحْكُم
عليها بضعف العلم، لأن النبيَّ عليه الصلاة و السلام كان يدعو ويقول كما
في حديثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ
بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ:
((اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا
يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا
بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ
الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا
أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى
مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلَا تَجْعَلْ
مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلَا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا
وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا
يَرْحَمُنَا))
[رواه الترمذي]
فالخشية تسبب الاستقامة، و العلم يسبِّب
الخشية، وهذه قاعدة صحيحة ؛ العلم يؤدِّي إلى الخشية، والخشية تؤدِّي إلى
الاستقامة، فأنت تخشى بقدر ما تعلم و تستقيم بقدر ما تخشى، إذا أردنا
دليلا قطعيا من كتاب الله ناصعًا كالشمس، قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
[سورة فاطر(28)]
العلماء وحدهم يخشون الله، و:
﴿إِنَّمَا﴾
تفيد الحصر، أيْ أنه لا يخشى اللهَ أحدٌ إلا العلماء فقط، وليس المقصود العالم الذي له عمامة، لا، بل الذي عرف مقام ربه، قال تعالى:
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)﴾
[سورة النازعات]
الذي عرف مقام ربه هو الذي يخشاه، علمٌ،
وخشية، واستقامة، أمّا ضعف علم، وضعف خشية، وضعف استقامة، يعني انعدام علم،
انعدام خشية، وانعدام استقامة.
هذه قاعدة ذهبية في طريق الإيمان، كلما وجدتَ
نفسَك تتفلَّت من منهج الله، أو تتساهل في تطبيق أمر الله، أو لا تبالي إذا
كان هذا العملُ مشروعا أو غير مشروع، إن كنتَ لا سمح الله بهذه الحالة
فاحكم على نفسك حكما قطعيا بأنّ خشيتك ضعيفة، لأن علمك بالله ضعيف، هذه
حقيقة.
قَالَتْ عَائِشَةُ:
((صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ
ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ
اللَّهَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ
أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ
لَهُ خَشْيَةً))
[رواه البخاري]
أيضا هذه مواقف غير أدبية، أن تفعل شيئا زيادة
على ما فعله النبي وهو أشدُّنا خشية، وأشدنا علما، فهذا عمل فيه مجاوزة، و
فيه رياء، و أحد الصحابة أراد أن يحرم قبل الميقات الذي أحرم منه النبي،
فقال له صحابيٌّ جليل: ( ويلك تُفتن، قال: و لِمَ أُفتن ؟ قال له: وهل من فتنة أشدّ أن ترى نفسَك سبقتَ رسول الله)،
والنبيُّ تزوج، فإذا ترك شخصٌ الزواج خوفا من الله، وورعا، فهذا رياء، لأن
أشدَّنا خوفا هو النبي الكريم، أشدنا ورعا هو النبي، أشدنا علما هو النبي،
ومع ذلك تزوَّج، أبو العلاء المعري ما أكل اللحم أبدا، قال: "هذا اللحم مذبوح، وهو حيوان، ونحن اعتدينا عليه"،
معناه أن أبا العلاء المعري الشاعر يرى نفسَه أشد خشية من رسول الله، لا،
بل هو كذَّاب أَشِرٌ، عندنا مقاييس، فالنبي رسولُ الله، و يُوحى إليه، وهو
أشدُّنا علما وخشية، والذي فعله نفعله، والذي لم يفعله لا نفعله، فَعَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
((جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا
كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي
اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ
وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ
فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي
لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ
وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ
سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))
[رواه البخاري]
هذه نقطة مهمة، إيَّاك أن تفعل شيئا لم يفعله النبيُّ، ما بال أقوام يتنزهون عن شيء أصنعه.
مرة زارنا أخٌ، وكان عليَّ أنْ أحضر عقدَ
قران، جلست معه وقتا كافيا، وأردت أن ألبِّي الدعوة، فدعوته ليذهب معي،
فقال: يا لطيف، وانتفض، وقال: أنا لا أذهب إلى منكرات، قلت له: عقد قران،
وأخ ضيف قادم من بلد آخر، ومعه حق، وعندهم في بلدهم عقود القران فيها
اختلاط، وفيها غناء، ثم قلت: تعال معي، أخذنا مجلسنا، وقرأ القارئ القرآن
الكريم، وأنشد المنشدون أناشيد رائعة حول أسماء الله الحسنى، ثم ألقيتُ أنا
كلمة، ووُزِّعت الحلوى، فقال لي: أهذا هو العقد ! يا خجلي منك، عقد قران
ليس فيه شيء، بالعكس من السنَّة أن تحضره، الأخ الكريم قاس الأمرَ على
بلده، عقود القران عندهم فيها اختلاطات وغناء، فالإنسان لا بد أن يحسن
الظنَّ برسول الله، وما فعلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو أكمل شيء،
أكمل شيء على الإطلاق، بإمكانك أن تفعله و أن تزداد به من الله قربا، أمَّا
أن تفعل شيئا ما فعله النبيُّ، أما أن ترفض الزواج، أن ترفض العمل فلا ثم
لا، والنبي قد أمسك بيد أحد الصحابة فوجدها خشنة، رفعها أمام الملأ وقال:
((هذه اليد يحبُّها اللهُ ورسولُه))
إذا وجدتَ أخا عمله يدعوه للتعري، وهو
لابس ثياب العمل ويعمل بنشاط، فما المانع ؟ العمل شرف، إني أرى الرجل ليس
له عمل، فيسقط من عيني، هكذا قال سيدنا عمر:
(يسقط من عيني )، قال: من يطعمك ؟ هذا إنسان يصلي في رمضان في المسجد، فيما بين الصلاتين، لكنه بلا عمل، مَن يطعمك ؟ قال له: أخي، فالنبي قال:
"أخوك أعبد منك " الذي
عمل و يكسب المال و ينفقه في طاعة الله و في إطعام المساكين و خدمة
المحتاجين، هذا إنسان عظيم، فالانسحاب من الحياة ليس من الدين، ويجب أن
تكون لك حرفة، ويجب أن تتقنها، ويجب أن تنفع بها المسلمين، ويجب أن تكون
إيجابيا، وهكذا النبيُّ تألم، أكرِّر رواية الحديث: قَالَتْ عَائِشَةُ:
((صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ
ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ
اللَّهَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ
أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ
لَهُ خَشْيَةً))
[رواه البخاري]
أحيانا أخ اجتهد اجتهادا فرغِب أن يعتكف
اعتكافا مستمرا، ترك دراسته وعمله، من قال لك: هذا هو الصواب، يجب أن تعمل،
وأن تتاجر، وأن تتوظف، وأن تتفوَّق في دنياك وفق منهج الله، هذا الذي ترقى
به، لذلك عالم واحد أشدُّ على الشيطان من ألف عابد، فضل العالم على العابد
كفضلي على أدناكم، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر
الكواكب.
هناك استنباط، قال: يُستنبط من هذا الحديث
الحثُّ الشديد على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنهي عن
التَّعمق، وفيه الذمُّ عن التنزُّه عن المباح شكًّا في إباحته، رجل اصطاد
سمكة، فقال في نفسه: لعلّ هذه السمكة قد اصطادها أحدٌ قبلي فامتلكها، ثم
تفلَّتت منه، ورجعت إلى البحر، لقد صارت هذه السمكة ملكه، فقال: أنا الآن
آكلها حراما، هذه اسمها وسوسة غير مقبولة، إنّ الورع جميل، لكنه إذا تجاوز
الحدَ المعقول صار هذا مرضا، فنحن لا نريد التفلت من الورع، و لا نريد
وسوسة، كلاهما حدَّان ليسا من الدين في شيء، والصواب لا أن تتساهل ولا أن
تتوسوس.
و اللهُ سبحانه و تعالى أعطى النبيَّ صلى الله
عليه و سلم أفضل وأكمل مقام في المعرفة والخشية، فإذا عرفت، وخشيت الله
عزوجل فقد نِلت كلَّ شيء، لأن المعرفة ثمارها الطبيعية الخشية، وإذا حصلت
الخشية فقد انتهى الأمر، لذلك مِن الدعاء الشريف: " اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأننا نراك"، والحديث الشريف:
((أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان ))
هذه أعلى درجة في الإيمان، أن ترى أن الله معك
حيث كنت، عبَّر عنه بعضُهم بمقام المراقبة، أي أن تشعر دائما أنَّ الله
يراقبك، و هذا معنى قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
[النساء: من الآية 1]
وعن أنس رضي الله عنه قال:
((لما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يوم
الفتح استشرفه الناسُ فوضع رأسه على رحله متخشِّعا، و في رواية البيهقي،
دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح و ذقنه على راحلته
متخشِّعا، و بعضهم قال: كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، من شدَّة الخوف
و الخشية من الله))
و هذه الكلمة أقولها لكم بدقَّة، الإنسان عند
المصيبة يخشع، وهذا شيء طبيعي، لكن الإنسان عند الرخاء قد ينسى، وقد
يغترُّ، وقد يتجبَّر، قد يقول كلاما فوق مقامه، فإذا كنتَ تخاف عند الشدَّة
مرة فينبغي أن تخاف عند الرخاء ألف مرة، لأن في الرخاء منزلقات كثيرة،
منزلق الغرور، ومنزلق التجبُّر، ومنزلق العنجهية، ومنزلق الفوقية، ومنزلق
التفلُّت، ومنزلق الطمأنينة الساذجة، الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا
لها، وفي رواية الواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنه:
((دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة يوم الفتح
حتى وقف بذي طُوى، و توسط الناس، و إن لحيته لتمسُّ وسط رحله أو تقرب منها
تواضعا لله عزوجل، حين رأى ما رأى من فتح الله و كثرة المسلمين، ثم قال:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة))
وهذا تعليم النبي عليه الصلاة والسلام، أحيانا
الإنسان يدخل إلى بيته فيجده بيتا واسعا مرتَّبا منظَّما، ودخلُه جيِّد،
وزوجته وأولاده يستقبلونه، وهم بخير، فالأولى أن يقول: اللهم لا عيش إلا
عيش الآخرة، لأن هذا لا يدوم، وإنْ ركب مركبة فخمة، اللهم لا عيش إلا عيش
الآخرة، وكذا إذا نظرت إلى بيت جميل، هناك بيوت جميلة، هكذا علَّمنا
النبيُّ، كلما رأيت شيئا من مباهج الدنيا، من زينتها، من بساتينها، من
بيوتها، من مركباتها، فكلما نظرت إلى الدنيا هذه النظرة فتذكَّر الآخرة،
هذه الدنيا زائلة، وقل: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، أحيانا أقوم بواجب
تعزية في بيت فخم، أوازن بين هذا البيت وبين المثوى الأخير، الذي استقرَّ
فيه صاحبُ هذا البيت، غرفة رخام، وورق جدران، وثريات جميلة، وسجَّاد يدوي
فخم، وصاحب البيت في مقبرة الباب الصغير، في قبر صغير، ليس فيه بلاط، ولا
رخام، ولا طلاء، ولا كهرباء، ولا تدفئة، ولا تبريد، ولا فراش وثير، ولا "
سليب كونفورت "، على الأرض ضعوه، ثم تركوه، أما قال الله في الحديث القدسي:
((عبدي رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحيُّ الذي لا يموت))
هذه قاعدة ذهبية فاحفظها، مركبة فخمة وبيت جميل، وآلة فخمة، فقل: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، دائما تذكَّر الآخرة.
وروى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
((أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ
النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي الْآيَةَ وَقَالَ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ
وَقَالَ اللَّهُمَّ أُمَّتِي، أُمَّتِي، وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ
فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا
قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى
مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ))
[رواه مسلم]
أمتك، ومن هي أمتك ؟ التي استجابت لك، والتي
آمنتْ بك، والتي طبَّقت سنَّتك، والتي أحبَّتك، والتي والت مَن توالي، و
عادت من تُعَادي، هذه أمتك، مرة ثانية أيها الإخوة ؛ وهمٌ كبير أنْ تعتقد
أنك من أمة محمد، ولستَ متَّبعا لمحمد، إنك عند العلماء من أمة التبليغ لا
من أمة الاستجابة، و أمة التبليغ ليس لها أيَّة ميزة عن بقية الأمم، أمة
تبليغ، أي بَلِّغت الرسالة، أما الأمة التي عناها النبيُّ حينما قال:
أمَّتي أمّتي هي التي استجابت له ونفَّذت أمره وطبَّقت سنَّته، والآية
تؤكَّد هذا المعنى، قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾
[سورة الأنفال]
أي ما دامت سنَّتُك قائمة في حياتهم فهم مُبعدون من العذاب.
طالب دخل الجامعة، وقدَّم عشر مواد، ونجح في
المواد كلها، ونقصته ثلاث علامات في مادة، فهذا تناله شفاعة مجلس الكلية،
لكن طالبًا آخر لم يداوم إطلاقا، وما قدَّم امتحانا إطلاقا، وما اشترى
كتابا، وما قرأ الكتاب، وما حضر ولا محاضرة، هذا الإنسان لا تناله شفاعةُ
مجلس الكلية، شفاعة النبيِّ بالحديث الصحيح:
((لمن مات غير مشرك))
لمن مات موحِّدا، والتوحيد قضية كبيرة، والتوحيد نهاية العلم.
و مما جاء في عظيم خوفه صلى الله عليه و سلم
من الله تعالى ما ورد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى
الله عليه و سلم في بيتي و كان بيده سواك، فدعا وصيفة له أو لها حتى استبان
الغضبُ في وجهه، كلَّفها بعمل فأطالت الغياب كثيرا، و خرجت أمُّ سلمة إلى
الحجرات فوجدت الوصيفة تلعب ببهمة - بغنمة صغيرة - فقالت أم سلمة:
((ألا أراكِ تلعبين بهذه البهمة و رسول الله يدعوكِ
فقالت: و الذي بعثك بالحق ما سمعتُك، فقال عليه الصلاة و السلام: و اللهِ
لولا خشية القَوَد - والقود هو القصاص، أي لولا خشية القصاص - لأوجعتكِ
بهذا السواك))
لو أنت حاولت أنْ تعاقب إنسانا بسواك، فلن يؤثِّر العقاب فيه، والنبيُّ الكريم يقول:
((واللهِ لولا خشية القصاص لأوجعتكِ بهذا السواك))
سمعتُ في السيرة النبوية
((أن النبي صلى الله عليه و سلم دُعِي إلى التمثيل
بقتلى قريش، لأنهم مثَّلوا بقتلى المسلمين، ومنهم سيدنا حمزة، فقال عليه
الصلاة والسلام قولا لا يُنسى، قال: و اللهِ لا أمثِّل بهم فيمثِّل الله
بي، و إن كنتُ رسولَه))
يجب أن تعلم أن عدالة الله من الدقة بحيث كنْ
من تكون، إذا تجاوزت الحدودَ جاء العقابُ الإلهي، فالذي يرقى عند الله هو
المستقيم، أما هذا المتساهل والذي تجاوز الحدود و يدَّعي أنه مع الله،
فاللهُ عزوجل لا يقبل إلا الكامل.
وكان عليه الصلاة و السلام دائم الخشوع
والانكسار والتواضع في سائر مواقفه الكريمة، و مشاهده العظيمة، في صلاته
وفي عباداته وفي شؤونه وقضاياه، وقد بلغ من خشوعه صلى الله عليه وسلم في
صلاته أنه سُمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل، بكاء، كما روى النسائي عَنْ
مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
((أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ
يَعْنِي يَبْكِي))
ليس من السهل أن تبكي، بعض الناس يقول لك: أنا
في عمري ما بكيت، لكن أن تبكي في أثناء الصلاة، أن تبكي وأنت حول الكعبة،
وأن تبكي أمام مقام النبي هذا دليل إيمان، لأن البكاء من علامات الإيمان،
فإنْ لم تبكِ فتباكَ، هذا بكاء الرحمة، وإذا سألت مؤمنا عريقَ الإيمان
فأسعد لحظاته على الإطلاق حينما يبكي من خشية الله تعالى، هذا بكاء الخشية،
و بكاء الرحمة، و في رواية أخرى، عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنْ
الْبُكَاءِ))
[رواه أبو داود]
أيها الإخوة مرة ثانية أقول لكم: البكاء يجلب
الرحمة الذي تتنزَّل على قلب المؤمن في أثناء اتِّصاله بالله، وهذا
الاتِّصال ثمرة من ثمرات الطاعة لله، والطاعة ثمرة من الخشية، والخشية ثمرة
من المعرفة، إذًا معرفة فخشية فاستقامة فاتِّصال فرحمة، قال تعالى:
﴿وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
[سورة الزخرف]
فالإنسان إذا أُتيح له أن تتنزَّل على قلبه
تلك الرحمة بسبب العبادة التامة التي يؤدَّيها، أو بسبب الطاعة التامة التي
يمارسها، وهذا بسبب استقامته على أمره، و بسبب معرفته، وخشيته، فقد حقَّق
من الدين جوهرَه، الدين فيه نشاطات كثيرة، يمكن أن تعمّر جامعا ولك واللهِ
أجر كبير، لكن هذا النشاط يحتاج إلى وقت وإلى جهد، لكن الإنسان حين يستقيم
وتنعقد صلتُه مع الله، فهذا الشيء متميِّز، هناك إنسان مقيم على أكثر
الشهوات، لكن يفعل بعض الأعمال الصالحة، وقد تكون هذه الأعمال مادية، لكن
بطولتك حينما تستطيع أن تصل إلى الله، حينما تستطيع أن تقبل عليه، حينما
تستطيع أن تنعقد معه الصلة، فهذه هي البطولة، وهي تحتاج إلى جهاد متواصل،
جهادِ النفس والهوى.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يقبلنا، وأن يبارك
لنا فيما بقي من شهر رمضان الذي نسعد به هذه الأيام، وأن يعيننا فيه على
الصيام، والقيام، وغضِّ البصر، وحفظ اللسان.
والحمد لله رب العالمين