الرحمة كتابات لم تبل على مرالزمان، زمان طويل مرعليها وكأنها كتبت بالأمس أو اليوم، تثمن كتابات هؤلاء من ذوى القامات الفكرية، والعلمية، والأدبية، نستخلص منها الفائدة، ونستلهم منها العبرة، ونعرّف بها أجيالاً لم يعرفوا عنها شيئاً، فما أشبه الليلة بالبارحة
كتب المنفلوطى عام 1907 م كتاب التراحم عن " الرحمة" فأبدع، شأنه فى ذلك شأن أعماله الأدبية التى تنوعت ما بين الإسلاميات، والنقد الاجتماعى، والسياسة، فضلاً عن مجموعاته القصصية القصيرة، وصياغاته لعدد من الروايات المترجمة، قال:
"لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا مغبون ولا مهضوم .. ولأقفرت الجفون من المدامع .. ولاطمأنت الجنوب فى المضاجع .. ولمحت الرحمة الشقاء من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام .
لو وجد الحكيم بين جوانح الإنسان ضالته من القلب الرحيم.. وجد المجتمع ضالته من السعادة والهناء.
لقد بليت اللذات كلها .. ورثت حبالها .. وأصبحت أثقل على النفس من الحديث المعاد .. ولم يبق ما يعزى الإنسان عنها إلا لذة واحدة: هى لذة الإحسان.
أيها الرجل السعيد: كن رحيما ، اشعر قلبك بالرحمة ، ليكن قلبك الرحمة بعينها.
ستقول : إنى غير سعيد ، لأن بين جنبى قلبا يلم به من الهم ما يلم بغيره من القلوب، أجل، ولكن اطعم الجائع واكس العارى، وعز المحزن، وفرج كربة المكروب، يكن لك من هذا المجموع البائس خير عزاء يعزيك عن همومك وأحزانك، ولا تعجب أن يأتيك النور من سواد الحلك فالبدر لا يطلع إلا إذا شق رداء الليل، والفجر لا يدرج إلا من مهد الظلام .
ليتك تبكى كلما وقع نظرك على محزون أو مفؤود فتبتسم سرورا ببكائك .. واغتباطا بدموعك، لأن الدموع التى تنحدر على خديك فى مثل هذا الموقف إنما هى سطور من نور .. تسجل لك فى تلك الصحيفة البيضاء : إنك انسان .
إن من الناس من إذا كشف لك عن أنيابه رأيت الدم الأحمر يترقرق فيها، أو عن أظافره رأيت تحتها مخالب حادة لا تسترها إلى الصورة البشرية، أو عن قلبها رأيت حجرا صلدا من أحجار لاجرانيت لا يبض بقطرة من الرحمة .. ولا تخلص إليه نسمة من العظة .
فيا أيها الإنسان احذر الحذر كله أن تكون واحدا من هؤلاء فإنهم سباع مفترسة وذئاب ضارية .. بل أعظك ألا تدنو من واحد منهم أو تعترض طريقه .. فربما بدا أن يأكلك غير حافل بك ولا آسف عليك .
أيها الإنسان ارحم الأرملة التى مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ودموع غزار.
ارحم المرأة الساقطة لا تزين لها خلالها ولا تشتر منها عرضها علها تعجز من أن تجد مساوما يساومها فيه فتعود به سالما إلى بيتها .
ارحم الزوجة لأن الله قد وكل أمره إليك وما كان لك أن تكذب ثقته بك .
ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه فإنك إن لم تفعل قتلته أو أشقيته فكنت أظلم الظالمين .
ارحم الجاهل لا تتحين فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه فتجمع عليه بين الجهل والظلم، ولا تتخذ عقله متجرا تربح فيه ليكون من الخاسرين .
ارحم الحيوان لأنه يحس كما تحس ويتألم كما تتألم ويبكى بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين .
ارحم الطير لا تحبسها فى أقفاصها ودعها تهيم فى فضائها حيث تشاء، وتقع حيث يطيب لها التغريد والتنقير .
أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء .
ولد الأديب مصطفى لطفي المنفلوطى لأب مصري وأم تركية، عام 1289 هجرية الموافق 1876 ميلادية وتوفى عام 1924 م، وانتسب لعائلة حسينية فى مدينة منفلوط بأسيوط، نبغ فيها قضاة شرعيون ونقباء، واشتهرت بالعلم والتقوى.
حفظ المنفلوطى القرآن الكريم بكتاب القرية وهو ابن تسع سنين، بعدها التحق بالجامع الأزهر، ومكث به عشر سنوات، تلقي خلالها دروسه فى اللغة العربية وعلومها، والقرآن الكريم، والحديث الشريف، والفقه، والتاريخ، وشروحات على الأدب العربي الكلاسيكي