الباحث عن لحظة هدوء في هذا الزمان لا يجدها.. إذا فتح الراديو تنهال عليه تشنجات قادة إسرائيل، و تهديدات صدام، و أخبار الزلازل و السيول و الأعاصير.. و إذا فتح التليفزيون تنهمر عليه مسلسلات العنف و الباتمان و حرب النجوم.. و إذا طالع صحف الصباح تفاجئه أخبار انهيار البورصة و جنون البقر و الإيدز و إذا بحث عن موسيقى يري...ح عليها أعصابه أو أغنية تهدأ لها عواطفه نزلت عليه لقطات الفيديو كليب تتقافز صورها و تتشنج رقصاتها و تتسارع إيقاعتها في إزعاج متواصل.. و إذا فتح الشباك قرقعت في آذانه أبواق السيارات و أصوات الميكروفونات و صراخ الباعة..
و إذا أغلق الشباك و نزل إلى الطريق خنقه الزحام.. و إذا انطلق هاربا إلى الأتوبيس لم يجد موقعا لقدم.. و إذا حمل أوراقه و شهاداته و أسرع ليتقدم لوظيفة وجد طابور طلاب الوظائف يسد الشارع.. و إذا بحث عن شقة لم يجد ثمنها.. و لا احتمال قريبا في عمل، و لا أمل في زواج، و لا أمل في حل سريع يأتي من السماء.. و في آخر المشوار يُسقط في يده.. و لا يجد حلا سوى أن يعود أدراجه إلى البيت إلى فراشه أو إلى ستين سنة إلى الوراء إلى ماض بعيد و إلى جيل انتهى.. إلى الشدو الهادئ في صوت أم كلثوم.. و إلى الحنان الرخيم في صوت عبد الوهاب.. و إلى دندنة هادئة مع العود.. بدون فيديو كليب.. و إلى الجمال البكر بدون افتعال.. و إلى البساطة العذبة بدون صنعة.. و إذا مس زرار الراديو في ذلك الزمان البعيد فإنه سوف ينقله إلى شوبان.. إلى الحلم.. و الخيال الناعم.. و السماوية الرحبة.. و الشوارع أيامها خالية.. و المواصلات مريحة.. و شقق للإيجار تتدلى لافتاتها من النوافذ.. و المرتب يكفي و زيادة.. و جلسة على شاطئ النيل هي كل المراد.
ماذا حدث للدنيا ؟!! و لماذا يصرخ المغنون.. و لماذا يتشنج الراقصون ؟! و لماذا هذه الإيقاعات المزعجة و الموسيقى النحاسية التي تخرق الآذان ؟!
هذه الأمور تفصح عن فقر فني.. و ذوق فاسد.. و بلادة سمعية.. ما ضرورتها لصوت جميل بالفعل ؟!
و هذا التسويق الفج.. ما الداعي إليه.. لولا سوء البضاعة و رخص الموهبة ؟.. و اضحكوا معي على الغلاء الطاحن.. مع رخص الناس.. و رخص الفن.. و انعدام القيم.. و تفاهة البضاعة.
إننا معاقبون يا سادة بهذا الضنك.. و تأملوا كلمات ربكم:
(( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا (124) )) [ طه ]
أليس عالم اليوم قد تلخص كله في هذه الكلمة البليغة.. (( الضنك )).. (( و الإعراض )) ؟! أليس العالم قد أعرض تماما عن كل ما هو رباني و غرق تماما في كل ما هو علماني و مادي و دنيوي و شهواني و عاجل و زائل.. و الكلام على مستوى العالم كله !
الكل متعجل يريد أن يغنم شيئا و أن يلهف شيئا.. لا أحد ينظر فيما بعد.. و لا فيما وراء..
الموت لا يخطر ببال أحد.. و ما بعد الموت خرافة.. و الجنة و النار أساطير.. و الحساب حدوتة عجائز.. و الذين يحملون الشعارات الدينية.. البعض منهم موتور و البعض مأجور.. و المخلص منهم لا يبرح سجادته و يمشي إلى جوار الحائط.. فهو ليس مع أحد.. و ليس لأحد.. و إنما هو مشدوه و منفصل عن الركب.. و مشفق من العاقبة.. و هو قد أغلق فمه و احتفظ بعذابه في داخله.. و اكتفى بالفرجة.
و الناس في ضنك.. و كل العالم: أغنياؤه و فقراؤه.. كلهم فقراء إلى الحقيقة.. فقراء إلى الحكمة.. فقراء إلى النبل.
و أكثر الأنظار متعلقة بالزائل و العاجل و الهالك.
و الدنيا ملهاة.
و هي سائرة إلى مجزرة. فالله في الماضي كان يوقظ خلقه بالرسل و الأنبياء.. و اليوم هو يوقظهم بالكوارث و الزلازل و الأعاصير و السيول.. فإذا لم تجد معهم تلك النذر شيئا ألقى بهم إلى المجازر و الحروب يأكل بعضهم بعضا و يفني بعضهم بعضا.
و حروب المستقبل حروب فناء تأكل الأخضر و اليابس و تدع المدن العامرة خرابا بلقعا.
و نحن على حافة الرعب و الصراع المفني. و ماذا يهم ؟! ماذا يهم ؟! فالمغنية تغني و تتلوى على المسرح.. في إيقاع أفعواني.. تحت بقعة الضوء.. و الألوف يرقصون كالأشباح في الصالة دون وعي..
ماذا تقول..
لا أحد يصغي إلى ما تقول.. و إنما الكل يصرخ و يصفق و يهتف و يتلوى كأفاع مسحورة.. و الطبول و الدفوف و الإيقاع الهمجي قد حول الكل إلى قطعان بدائية ترقص في شبه غيبوبة.
و لا تملك و أنت تستمع معهم إلا أن تفقد اتزانك و قدميك ثم تصبح جزءا من هذا اللاوعي المفتون.. و قد خيم على الجو إحساس الكهوف البدائية.
هل انتهت الحضارة فجأة.. و عدنا إلى كهوف الإنسان الأول ؟! هل تبخر العقل.. و لم تبق إلا غرائز تعوي و تتلوى على الطبول و الدفوف ؟! نعم.. يا سادة.. تلك هي نهاية علمانية اليوم.
و تلك هي احتفالية العالم بنهاية الإيمان.
احتفالية بالعقل الذي أسلم نفسه للهوى.
و الحكمة التي نزلت عن عرشها للغرائز و الإنسان الذي أسلم قياده للحيوان.
و ماذا يهم..؟!!!
لا شيء يهم...!!!
إننا نرقص اليوم للفجر.
و ليكن غدا ما يكون.
هكذا تعلمنا في سهرات (( الدش )) و إبداعات مادونا و جاكسون و فنون الموجة الشبابية الجديدة و برامج الأقمار و الفضائيات القادمة علينا من أمريكا و أوروبا.
و ذلك هو العصر العجيب الذي نعيش فيه..
أمريكا – القطب العملاق الذي يحكم العالم – تخصصت في صناعة الغيبوبة لشباب هذا العالم.. عن طريق أفلام الحب و العنف. و الرعب و أساطير الخيال العلمي و عن طريق الرحلات الفضائية و الصواريخ المنطلقة إلى القمر و المريخ و زحل و المشتري.. و عن طريق ترسانة كيميائية تنتج عقاقير الهلوسة و إكسير الشباب و الفياجرا و من أمريكا خرجت أكذوبة الميلاتونين.
و من أمريكا خرج الديسكو و الجاز و نوادي الشواذ.. و من أمريكا انتشرت صناعة الغيبوبة لتصبح صناعة مقررة في أكثر الحكومات و سلاحا مشروعا تحارب به الأزمات و تشغل به الشعوب عن متاعبها.
سلاح اسمه (( الهروب اللذيذ )).. على أنغام الموسيقى و الديسكو و على رقصات المادونا.
و لا أحد يكره أن يهرب من مشاكله في ساعة لذة و إغماء غيبوبة بل كل مراهق يحلم بهذا الهروب اللذيذ و يسعى إليه.
و هذه الفكرة الإبليسية هي التي يدير بها الكبار العالم.
و حرب الخليج كانت هي (( النهب اللذيذ )) لبترول الخليج و ثرواته.. و لكن الاسم المعلن لهذا النهب كان شعارات مبهرة عن تحرير الشعوب و نجدة الضعفاء و نصرة الديمقراطية و إعادة الشرعية.. الخ.. الخ.. إلى آخر الأسماء الجذابة الخلابة التي تدير الرؤوس و تسكر النفوس.
و الإعلام هو دائما الأداة الإبليسية لهذا النهب اللذيذ.. و الاستعمار اللذيذ.. و الهروب اللذيذ..
(( ن و القلم و ما يسطرون ))...
و ما أعجب ما يصنع القلم.. و ما أعجب ما يسطر ذلك القلم الذي يميت و يحيي، و يسحر و يفتن، و يوقظ و ينيم، و يبني و يخرب، و يهدي و يضل.
و هناك الآن أقلام عظيمة تجيد صناعة هذا (( التيه )).
و مؤسسات عالمية تصنع للشعوب الدوار.. و تتفنن في تسمية الأشياء بغير أسمائها.. و تسبغ هالات المجد على تفاهات.. و تروج للجريمة و الشذوذ و فنون الغيبوبة.
و أصبح من لزوميات هذا العصر أن يكون في أذن كل مستمع (( فلتر )) لكشف الزيف في الكلمات و المرائي و المشاهد.. خاصة في المشاهد العسل.. و الكلمات العسل.. و الوعود العسل.. التي يقصد بها النوم في العسل..
و إذا فتحت ال C. N. N أو أي محطة اجعل هدفك هو البحث فيما وراء ما تسمع.. البحث فيما وراء المقاصد.. و فيما وراء الأهداف من كل كلمة و كل خبر و لا تحسن الظن.. فإن سوء الظن الآن هو من حسن الفطن.
و لا تنم على الشعارات و الأماني و الوعود الطنانة فقد لا تصحو و لا ترى تحقيق تلك الوعود أبدا.. و قد تفاجأ بها تنقلب إلى ضدها.. مثل وعود نتانياهو و اتفاقات أوسلو و مدريد و شعارات حقوق الإنسان التي يطلقها القطب الأمريكي الأوحد و ضع كل هذا الكلام في سلة المهملات و انظر في الأفعال و سوف ترى.. الأرض في مقابل السلام تصبح: الأمن في مقابل السلام، ثم: السلام في مقابل السلام، ثم: السلام في مقابل لا شيء.. و هذا هو الفيديو كليب السياسي.. و اتفاقات (( القص و اللزق )) كل يوم على مقاس الوعي العربي.. و الصف العربي.. و اللي مش عاجبه يشجب.
و هذا التياترو السياسي العالمي في عصر كلينتون و المسرح الإعلامي الآن يضاء من جديد و الصالة تضج بالتصفيق و الهتاف و المادونا الفاتنة تتهادى في ضباب الأضواء برقصها الأفعواني.. و الموسيقى تدير الرؤوس و تسكر النفوس و الطبول تدق بإيقاعها الهمجى و الدفوف ترتعش لتأخذ الكل في دوامة من الدوار اللذيذ.. إنها مونيكا.
و جرعة أخرى من عقار الغيبوبة السحري تتسلل إلى العروق و تلف الكل في غلالة من النسيان..
و بوركت ليالي الأنس يا صاح.. فما عاد أحد من الحضور يعرف نفسه.. و لا عاد أحد يدري بمكانه.. أو زمانه أو حاضره أو ماضيه أو مستقبله..
و لا شك أن التليفزيون جهاز خطير يدخل كل بيت و يفعل بنا أكثر من هذا..
هذه العلبة السحرية.. و هذا الإصبع الذي اسمه الريموت كنترول.. تضغط على زرار فتستدعي فرقة راقصة من الفولي برجير تأتي لترقص لك شخصيا.. و تضغط على زرار آخر فتستدعي بها ألفيس بريسلي من قبره ليغني لك روائع أنغامه و ضغطة أخرى و تستدعي بها كوكتيل من الأكاذيب السياسية في أحلى عبوات من الكلام على لسان أكبر الشخصيات العالمية يلبس فيها الباطل ثوب الحق و تختلط المفاهيم و تنقلب المعاني في عقلك و يلقي بك في متاهات من التزييف الحلو الجذاب الناعم و لا تعود تفهم شيئا..
و هذا هو الإعلام الإبليسي في عصرنا و حينما تطفئ تلك العلبة الشيطانية.. تكون قد أصبحت رجلا آخر دون أن تدري..
و هذا هو عصرنا.. و لا أحد محصن.. و لا أحد معفي من هذه المطاردة الخفية لتشكيل أفكاره و زلزلة نفسه و محو قيمه و مثاليته.
و الفضاء حولنا يحتشد بهذه الجيوش غير المنظورة التي تهاجمنا صباح مساء و لكل دولة كبرى مصالح.
و لكل دولة كبرى أغراض.
و لكل دولة كبرى مطالب منك و من بلدك و أطماع فيك و في بلدك.
و صناعة الغيبوبة و غزو العقل و الاستيلاء على الفكر قبل الأرض أصبحت صناعة العصر.. و التحكم عن بعد في الشعوب أصبح لعبة الكبار و الصغار.
هل تجاوزنا السياسة أم أننا لا نزال فيها ؟! بل نحن في قلب (( المطبخ السياسي )) الذي تطبخ فيه توجيهات الشعوب و اهتماماتها و تطبخ فيه مصائرها.