السجن الذي حَبَسْنَا أنفسنا فيه بأيدينا الدكتور / محمد سعيد البوطي
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، أما بعد فيا عباد الله:
لقد آن لنا أن نتجاوز الصور والمشاهد المختلفة للظلم والعدوان التي تفد إلى عالمنا الإسلامي من كل الجهات من شرق العالم وغربه، آن لنا أن نتجاوز هذه الصور والمشاهد إلى ما وراءها، وأن نقف على اليد التي تحرك، وأن نقف على سلطان الربوبية المهيمن على كل ما نراه من هذه المظاهر العدوانية التي تفد إلينا من كل الجهات.
أما وقفتم أمام قرارات الله عز وجل؟ أ
ما وقفتم وقفة تأمل أمام قول الله سبحانه وتعالى مثلاً: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:251]؟
ألم تقفوا وقفة تأمل أمام قوله عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:65-67]؟
من الذي يرسل العذاب إلى من يشاء من فوقهم؟
ومن الذي يفجر أسباب العذاب من تحت أقدامهم؟
ومن الذي يلبس بعض الناس شيعاً بأس بعض؟
إنه الله، إنها يد الله سبحانه وتعالى، ولكن لله جنوداً ولا يعلم جنود ربك إلا هو، إنها أصداء لأعمالنا، وإنها مفرزات ونتائج للفساد المتوضّع في حياتنا، وهل أحدثكم عن أنواع الفساد المستشري في عالمنا العربي والإسلامي الذي تحتضنه شعوب هذا العالم الإسلامي ويتبناه كثيرٌ من قياداته؟
الوقت يضيق عن ذلك يا عباد الله. المهم أن نعلم أن هذه الصور والمظاهر التي نراها إن هي إلا نتائج قانون يعامل الله عز وجل به عباده، ولن تجد لسنة تبديلاً ولا تحويلاً.
يا عباد الله. إسرائيل التي جعل الله عز وجل منها واحداً من العِصي، عِصي الظلم، عِصي العدوان التي تنهال على عبادٍ مظلومين بائسين في مجتمعاتنا، إسرائيل هذه خاضعة لهذا القانون، وفي يومٍ من الأيام مرت بالمحنة التي نمر بها، ألم تقرؤوا قوله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراًن فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} [الإسراء:4-5]؟
فسادٌ أوغل فيه أولئك الناس في ذلك العصر يشبه الفساد الذي أوغل فيه كثير من المسلمين في عالمنا العربي والإسلامي اليوم، فأرسل الله عز وجل إليهم عِصي التأديب متمثلة في أناسٍ حلَّتْ أمريكة اليوم محلهم، ألم يقل الباري سبحانه وتعالى: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} [الإسراء:5]؟
أعود فأقول: آن لنا -يا عباد الله- أن نطلق أنفسنا من السجن الذي حَبَسْنَا أنفسنا فيه بأيدينا، سجن هذا التصوّر أن عدواناً يستشري قادماً إلينا من هنا أو هناك، وأن ظلماً ينحطّ علينا آتياً من خططٍ راميةٍ عدوانية تتجه إلى عالمنا العربي والإسلامي، أجل إنها صور، وإنها مظاهر لجنود، ولكن تجاوزوا الجنود إلى القيادة، تجاوزوا هذه الظواهر إلى اليد التي تحرك، إنها يد الله، وإنه القانون الرباني الذي لا يتبدل، هل فعلنا ما نستأهل به هذا العدوان؟
نعم -يا عباد الله- إن المسلمين اليوم كما تعلمون يناهزون المليار ونصف المليار، إنهم من الكثرة بمكان ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "غثاءٌ كغثاء السيل"، مظهر كبير لكنه فارغ عن المضمون، ما أدقّ هذه الصفة التي وصفنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفي شكٍ أنتم من أن المسلمين أو جُلّ المسلمين، شعوباً وقياداتٍ أو كثيراً من قياداتهم قد تحولوا إلى غثاء؟
إذاً تعالوا أَجُبْ بكم وأجول في شوارع المسلمين، في منتدياتهم، في أماكن أسمارهم وحاناتهم، تعالوا أطلعكم على القلوب التي فرغت من مخافة الله، التي فرغت من هيمنة سلطان الله سبحانه وتعالى عليها، وتسرب إليها في مكان ذلك سلطان أولئك الذين يعادون الله ومن ثم يعادون عباد الله عز وجل، أصبح السلطان الذي يهيمن على قلوب كثيرٍ من الناس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها شعوباً وقيادات أصبح السلطان الذي يهيمن على قلوبهم سلطان هؤلاء المعتدين، سلطان هؤلاء الذين يرفعون شعارات العدوان والحقد والظلم لهذه الأمة، أأقف بكم على القلوب التي فرغت من آخر معنى من معاني الرحمة بعباد الله، بل فرغت من آخر قطرة من قطرات الرحمة بإخوتهم الذين هم إلى جانبهم فضلاً عن الذين يعيشون بعيداً عنهم؟ ألا تلاحظون كيف أن هذه القسوة قد حلَّت في قلوب كثيرٍ منهم، ولا أقول: في قلوب الكل، في قلوب كثيرٍ منهم، حتى أصبحوا يضنون باللقمة تمر بهم إلى أولئك المظلومين ليتبلغوا بها في طريق هلاكهم، أصبحوا يضنون بالجرعة من الشراب والقارورة من الدواء يمر إلى أولئك البائسين، أولئك الذين تنحطّ عليهم سياط الظلم والعدوان، أولئك الذين يستحرّ بهم القتل ظلماً وعدواناً، يضنون بالجرعة من الشراب، باللقمة من الطعام، بشيءٍ من الدواء يمر بهم إلى أولئك الناس، لأن القسوة لإخوانهم حلَّت محل الرحمة بهم، أليس هذا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ولكنكم غثاء كغثاء السيل"؟ إنه خطاب لنا وليس خطاباً لأصحابه رضوان الله تعالى عليهم، أجل لقد عدنا فعلاً وأصبحنا غثاء كغثاء السيل.
بعد فما الفائدة من وصف هذا الذي أقوله لكم ولعله لا يبعث في النفوس إلا الأسى ومرارة البلاء؟
لا يا عباد الله، إن الأمل فيما إذا عرفنا هذه الحقيقة، واخترقنا صور المآسي التي تطوف بنا، ووقفنا على اليد التي تحرك، ووقفنا على سنن الله سبحانه وتعالى، المأمول أن تستيقظ بين جوانحنا بل بين جوانح أمة محمد صلى الله عليه وسلم قادةً وشعوباً مشاعر الإيمان بالله مرةً ثانية، دوافع العودة ببيعة جديدةٍ مع الله سبحانه وتعالى، إن أملاً عظيماً يراودني ويطوف بنفسي أن يقظة إسلامية قريبة ربما بل أرجو أن تسري إلى قلوب عامة المسلمين في عالمنا العربي والإسلامي متمثلاً في قادته وشعوبه، المأمول، وهو أمل يراودني أن تستيقظ هذه الحقيقة بين جوانحنا وجوانحهم جميعاً، فتمتد إليهم الأيادي مرة إلى سلطان الله يبايعونه من جديد، وينتصرون لأحكامه وشرعته ونظامه ومنهجه من جديد.
أجل. الأمل يراودني وهو قريب بإذن الله عز وجل أن قادة المسلمين سيعودون فيشعرون بثقل المهمة القدسية التي أنيطت بأعناقهم، ولسوف يجدون أنهم أحفاد أو خلفاء أولئك القادة الذين قضوا نحبهم بعد أن أدوا رسالة الله في أعناقهم، ولسوف يسيرون مسيرتهم، لسوف يقفون على حياة نور الدين محمود زنكي هذا الذي يجثم إلى مقربةٍ منا يا عباد الله، هذا الذي فتح ما بين خمسين وستين حصناً من حصون الفرنجة، وأخضعهم لسلطان الله سبحانه وتعالى وحكمه، إنني أتصور أنهم يقفون في الطريق ذاته الذي ساروا فيه من قبلهم، إنهم يشعرون بالمجد بل بالشرف العظيم الذي بوأهم الله إياه إذ سيرهم في الطريق ذاته، وما أظنهم إلا أنهم سيسيرون مسيرة أولئك الناس، سيقفون على الجهاد الأقدس الذي قام به صلاح الدين الذي يرقد على مقربة منا، وكيف ألَّف جنداً يقف في وجه العدوان الصليبي من طلاب الشريعة في مختلف المعاهد التي أسسها وغرسها في سفوح قاسيون هنا وفي ربا القاهرة هناك، جمعهم من هنا وهناك وألَّف منهم جيشاً يعتز برسالة الله، ويعتز بالهوية التي يمتعون بها، استفتح باب النصر بيدٍ مرتجفةٍ من الالتجاء إلى الله، من التذلل على أعتاب الله، وقدَّمَ بين يدي التجائه هذا قرباناً إلى الله هؤلاء الجنود التي كانت مشاعرهم تنبض بتوحيد الله، وكانت جباههم تعلوها معالم السجود لمولانا وخالقنا عز وجل، ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة الفتح الإسلامي الأغر، كانت النتيجة أن طهَّرَ الله سبحانه وتعالى أرضه المقدسة من فلول الصليبية.
ما أشبه الليلة بالبارحة يا عباد الله. نعم إن أملاً كبيراً يراودني، سيعود قادة المسلمين وستعود الشعوب الإسلامية لتجدد ذلك العهد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة". أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.