أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
مضت تسع شهور بعد رمضان، ونسي الناس النسك والعبادة وعمارة المساجد،وألهتهم الأسواق وأخلاقها، وكل عام تزداد أخلاقهم سوءا، حتى صارت مدينة شمس المعاني بلدا لا يحب العدناني العيش به، ومل العدناني هذا البلد وما آل إليه حاله، فلم يجد ملجأ من ذلك سوى الرجوع إلى الله والاستغفار لنفسه ولمن يعرف عسى الله أن يصلح الأحوال، واغتنم العدناني دخول هلال رجب، فشحذ عزمه، وقرر البدء بالصيام والتنسك والعبادة والقيام وتلاوة القرآن حتى عيد الفطر، وأمضى ليلة رؤية هلال رجب في سعادة بما هو مقبل عليه من طاعات، وأخر عشاءه فجعله سحوره، وسهر شيئا من الليل في قيام قليل ثم نوى الصيام ونام حتى الفجر فقام فصلى، ثم عاد إلى بيته يتلو من القرآن ما يفتح الله به، حتى أشرقت الشمس، فقام إلى عمله، يحمل متاع هذا وينقل بضاعة هذا، وهو في ذكر دائم حتى اقترب العصر وخلا السوق من كل بضاعة وبيع، وقد أكد العدناني حر النهار، فانصرف من السوق نحو بيته، فعرج على المسجد القديم بطريقه إلى بيته، فتوضأ وصلى الظهر، واختار مسقطا لهواء بارد تلقاء باب المئذنة، واضجع إلى عمود من أعمدة المسجد، واسند رأسه، وسرعان ما راح في نوم المجهدين، فما أيقظه إلا أذان العصر، فتوضأ وصلى مع الجماعة وانصرف راشدا إلى بيته، وقد اشترى ما يلزم لإفطاره من خبز وإدام وشيء من الفاكهة، وبالدار أعد الطعام وهيأ مائدة الإفطار، وسرعان ما اصفرت الشمس ثم مالت تستأذن في الاحتجاب، وكان قد أخذ من الماء فرش الفناء، وفتح بابه وفرش حصيرا ووضع طعامه وماءه وفاكهته وجلس ينتظر الأذان.
وبين دقيقة وأخرى سيرتفع الأذان، إذ أقبل عليه رجل أشعث أغبر بالي الأطمار، لا تكاد ترى وجهه بين لحيته وحاجبيه، يعتم بعمامة عظيمة، ويمسك بيده عصا طويلة ويهم في خطاه تسمع لدب قدميه في الأرض هدرا كأن الأرض ترتج من تحته، ويقبل وكأنه يهجم، وعمد قاصدا إلى باب العدناني، فحياه بتحية الإسلام فرد عليه العدناني التحية بالسلام، ودعاه للدخول والجلوس فدخل وجلس فدعاه للطعام، فمد يده وتناول كسرة فأكل منها، ثم رفع عصاه إلى رأس العدناني وهم أن ينزل بها لولا أن تفاداها العدناني، وصاح به أتجلس هنا لتأكل وتترك الصلاة، قم إلى المسجد ثم نهض قائما وكأنه سيفتك بالعدناني، فركض العدناني والرجل يتبعه مطاردا حتى باب المسجد حيث رفع المؤذن الأذان، فدخل العدناني للصلاة، فشرب جرعة ماء ثم صلى المغرب مع الجماعة، وخرج من المسجد فإذا بالشيخ الغريب ينتظره خارج المسجد مضجعا على التراب، يدخن لفافة تبغ ربما أخذها من أحد المارة أثناء الصلاة، فهو لم يدخل المسجد، وما أن رأى العدناني حتى فزع قائما واعتقل ساعد العدناني ومضى في هدوء عائدا لبيت العدناني.
افطر العدناني وضيفه العجيب، وجلسا لا يتكلمان، والعدناني في حيرة من أمره، مع هذا الضيف، فهناك شيء جميل في الرجل يحسه العدناني ولا يراه، فكل ما يبديه الرجل فظاظة وغلظة، ولكن العدناني يزداد حبا فيه وتوددا إليه، وكأن وحدة العدناني جعلته يفتقر إلى أي أنيس ولو كان وحشا من وحوش البرية.
بادر العدناني بتذكير الرجل باقتراب صلاة العشاء خوفا من عصاه، فتمدد الرجل على الحصير ممسكا بقطف من عنب، يدليه في فمه، يهز قدميه غير عابئ بالعدناني، فتركه العدناني بفناء الدار ومضى إلى المسجد، فصلى العشاء وما أمكنه من النفل ثم عاد إلى بيته، فوجد ضيفه مستلقيا في مكانه، يحملق في السماء المظلمة والنجوم الزاهرة.
فحياه العدناني وجلس فاعتدل الشيخ جالسا فرد التحية، ثم قال له: يا بني، أبشر بخير كثير ومدد وفير، وإن لك معي رسالة، فقال العدناني ممن الرسالة وما هي، فقال الرجل: إن الرسالة منهم، وأما ما بها فهي رسالة لا تقال ولا تقرأ، فتعجب العدناني وعاد يسأل، فكيف تبلغها إذن، فقال له الرجل إن قبلتها بلغتها لك وإن أبيت فسلام ولكل منا سبيله، ولكن اعلم أنك إن قبلت تلقي الرسالة حملتها، وإن حملتها كانت أمانة بعنقك، فعليك حفظها وحق أدائها مهما كلفك ذلك، فازداد العدناني حيرة وتحمسا لفض الرسالة، فقال له الشيخ أهل قبلتها ثلاث مرات والعدناني يؤكد قبول الرسالة والأمانة مهما كلفته، فقام الرجل وأمر العدناني فأغلق باب الدار، وأحكم غلقه من خارجه، وألقى مفاتيحه وراء سور الفناء، وقال للعدناني الآن صرنا سواء، وجذب الشيخ العدناني فضمه إلى جانبه بيمينه، وغطاه بعباءته البالية، ثم ضم العدناني ضما شديدا واهتز كأن إعصارا ضربه، ثم فرج العباءة، فإذا هما بصحراء، يضيء ظلامها بناء، فأدهش العدناني ذلك، وقال في نفسه ما خلصت من الجني إلا بستر الله، فيأتيني من هو أشد منه، وكأني يعبث بي جني سليمان ووزيره، وتماسك العدناني حتى لا يسقط مغشيا عليه، فقد رأى من قبل من الأهوال ما أهله لمثل هذا اللقاء، فقال له الشيخ أتدري أين نحن؟، فأجاب العدناني: ألله أعلم، فقال الشيخ: نحن في حميصرة، بصحراء البحر الأحمر بمصر، وهذا مسجد ومقام سيدي أبي الحسن الشاذلي.... تقدم يا فتى.
وهنا عزت المعاني وزار النوم أجفاني فقلت لابد من فراق العدناني لأعود إلى مكاني وإن شاء الله إن أتيتني غدا تراني فأتم لك ما كان من أمر العدناني