السيرة - سيرة الصحابيات الجليلات - أمهات المؤمنين - سيرة السيدة خديجة بنت خويلد - الدرس 5-8 : مرحلة أول البعثة و إيمانها به بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الخامس من دروس سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن ، ومع قصة السيدة خديجة أم المؤمنين .
السيدة خديجة امرأةٌ كأية امرأة لكنها انتصرت على نفسها :
أيها الأخوة الكرام ، قبل أن نمضي في الحديث عن هذه الصحابيَّة الجليلة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الأولى ، أم المؤمنين ، أقف وقفةً متأنيةً عند حقيقةٍ هي أن الإنسان حينما يقف مواقف بطوليَّة ، والأيام تمضي ، هذه المواقف تبقى خالدة ، نحن بعد ألفٍ وخمسمئةٍ عام نجتمع في هذا المسجد لنذكر مواقف هذه السيدة الجليلة ، ما الذي جعلها تَخْلُد ؟ مواقفها .
ملايين مَلايين النساء أتين إلى هذه الدنيا ، وعشن وقتهن ، وتزوَّجن ، وأنجبن ، وطوتهم الحياة ، ولم يذكرهم أحد ، لماذا نحن نذكر هذه السيدة الجليلة ؟ لأنها وقفت مواقف بطوليَّة ، هذا درسٌ أيها الأخوة ينبغي أن يوضع بين أيدينا ؛ نأكل ، ونشرب ، ونعمل ، ونتزوج ، وننام ، هذا شأن الإنسان في كل مكان ، ولكن الذي يبقي ذكره إلى أبد الآبدين معرفته بالله ، وطاعته له ، وموقفه البطولي .
كلكم يعلم من الدرس السابق أن جبريل حينما جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال : " اقرأ " ، قال : " ما أنا بقارئ " ، قال : " اقرأ " ، قال : "ما أنا بقارئ " ، قال :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾
( سورة العلق )
النبي صلى الله عليه وسلَّم بشر ، وبشريَّته هي التي تُعلي مقامه ، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر ، سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام لأنه بشر ، وانتصر على بشريَّته ، وسَمَت نفسه إلى الملأ الأعلى ، هو الذي جعله سيِّد الخلق ، وحبيب الحق ، والسيدة خديجة زوجته امرأةٌ كأية امرأة لكنها انتصرت على نفسها .
الله سبحانه وتعالى لكرامة النبي عنده قيَّض له هذه الزوجة العاقلة الوفية :
بيَّنت لكم في دروسٍ سابقة كيف أن الزوجة ترغب أن تبقى إلى جانب زوجها ، أو أن يبقى زوجها إلى جانبها ، لكن هذه الزوجة الجليلة كان تُسَرُّ بما يُسَرُّ به النبي عليه الصلاة والسلام ، فكان يتركها ، ويخلو بربه الليالي ذوات العدد في غار حراء ، وهي سعيدةٌ بهذا لأنها تعلم علم اليقين أن هذا يسعده .
ذكرت قبلاً أن المرأة إما أن تكون عبئاً على زوجها ، وإما أن تكون في خدمة زوجها ، تكون عبئاً عليه حينما تحمِّله ما لا يطيق ، حينما تسفِّه دعوته ، حينما لا تقدِّر رسالته ، وتكون في خدمة زوجها وشريكته في دعوته إلى الله عزَّ وجل حينما تكون عوناً له في أداء رسالته .
قد ذكرت لكم من قبل أن المرأة لا تسعد زوجها إلا في حالةٍ واحدة ؛ إذا عرف زوجها ربه ، وسعد بقربه ، وعرَّفها بربها ، فسعدت بقربه ، بعدئذٍ تسعده لأنها تعرف حق الزوج ، وتعرف عِظَم الرسالة التي جاءت من أجلها .
بالمناسبة أيها الأخوة ، كل إنسانٍ ذو رسالة ، لأنك من بني البشر :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ (72)﴾
( سورة الأحزاب )
أي إنسانٍ لمجرَّد أنه إنسان عُرضت عليه الأمانة وقَبِلها ، وحينما قبلها شرَّفه الله عزَّ وجل فجعله المخلوق الأول ، وجعله المخلوق المكرَّم ، وجعله المخلوق المكلَّف ، ما دام قد قَبِلَ حمل الأمانة ، سخَّر الله له الكون تسخير تعريفٍ وتكريم .
الفكرة الأولى في هذا اللقاء ، هناك مَلايين ملايين النساء أتين إلى الدنيا ، وعشن وقتهن ، وتزوجن ، وأنجبن ، وطواهم الردى ، ولم يذكرهن أحد ، لكن المرأة التي عرفت ربها ، وعرفت رسالتها ، وعرفت عِظَم المسؤوليَّة التي أُلقيت عليها ، هذه تكون في خدمة زوجها ، وليست عبئاً عليه ، فلعل الله سبحانه وتعالى لكرامة النبي عنده قيَّض له هذه الزوجة العاقلة الوفية ، التي ندر أن يأتي الزمان بمثلها ، لذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :
(( خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ قَالَ تَدْرُونَ مَا هَذَا فَقَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِين ))
[أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]
الزوج والزوجة متكاملان هذه مشيئة الله عزَّ وجل وهذه هي سنته في خلقه :
أيها الأخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن جاءه الوحي كان يرتجف من هول ما حدث ، عاد إليها ، الزوجة سكنٌ لزوجها ، الزوج حينما يعود إلى البيت ويجد زوجته في انتظاره ، وفي خدمته ، تخفِّف عنه آلام الحياة ، إنها تؤدِّي رسالتها على أحسن ما يكون ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً (21)﴾
( سورة الروم )
تكون الزوجة سكناً لزوجها لأن الرجل يكمِّل نقصه فيها ، ويكون الزوج سكناً لزوجته لأنها تكمِّل نقصها فيه ، هما متكاملان ، وهذه مشيئة الله عزَّ وجل ، وهذه هي سنته في خلقه .
كان عليه الصلاة والسلام يرتجف من هول ما حدث ، عاد إليها وهو يقول :
(( زَمِّلُونِي زمِّلُوني ))
[متفق عليه عن عائشة]
مرَّةً ثانية إن حذفت من رسول الله بشريته ألغيت تفوقه ، وألغيت كماله ، لأنه بشر وتجري عليه كل خصائص البشر كان سيد البشر ، انتصر على بشريَّته ، فزمَّلته رضي الله عنها ، وقد ورد أيضاً أنها دعته إلى أخذ قسطٍ من الراحة ، فقال لها صلى الله عليه وسلَّم : انقضى عهد النوم يا خديجة .
الآن معظم الناس حينما يأتيهم رزقهم رغداً من كل مكان ، حينما يتمتعون بصحةٍ طيبة ، ومالٍ وفير ، وأولادٍ كثيرين ، وبيتٍ مريح يقول لك : على الدنيا السلام .
النجاح الحقيقي حينما يؤدِّي الإنسان الرسالة التي حمَّله الله إيَّاها :
قلت لكم من قبل أن سيدنا عمر رضي الله عنه أدخل شاعراً اسمه الحُطيئة السجن لأنه هجا رجلاً هو الزبرقان بأهجى بيتٍ قالته العرب ، قال :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
***
أي أن كل إنسان جعل تحقيق أهدافه الماديَّة نهاية المطاف هو إنسان ينطبق عليه هذا البيت :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
***
أي أنت أيها الإنسان على عاتقك رسالةٌ ينبغي أن تعيها ، مثل بسيط : أمةٌ متفلِّتَةٌ تحتاج إلى علمٍ جيد ، أرسلت شاباً في بعثةٍ دراسيَّةٍ إلى بلد غربي ، هذا الشاب أُرسل على حساب أمتِه ليدرس ، ويتعلَّم ، الآن مقيم في بلد أجنبي ، بقدر وعي هذا الشاب يشعر أنه يحمل رسالة ، أتى هنا ليتعلَّم ، وليعود لينفع أمته بعلمه ، فكلَّما عرضت له نزوةٌ أو شهوةٌ يجب أن يذكر رسالته ومهمته ، الشاب الواعي وهو في بلاد الغرب وقد أرسلته أمته ليدرس ، وينال أعلى الدرجات ، وليعود لينفع أمته بعلمه ، يشعر دائماً بهذه المسؤولية ، وتلك الرسالة ، وعِظم هذه المهمة التي أُنيطت به ؛ وكلَّما كان ضعيف الإدراك ، ضعيف الوازع الداخلي كلَّما تفلَّت من تلك المسؤوليَّة ، وعاش لحظته ، وانساق مع شهواته .
أنتم أيها الأخوة وأنا معكم كلَّما ارتقينا شعرنا بعظم رسالتنا ، وكلما ضعفنا تفلَّتنا من هذه الرسالة ، فالإنسان لو حقَّق أهدافه المادية ؛ لو أكل ، وشرب ، وسكن ، وتزوج ، وعمل ، وجاءه دخلٌ كبير لن يحقِّق شيئاً ، النجاح الحقيقي حينما تؤدِّي الرسالة التي حمَّلك الله إيَّاها ، النجاح الحقيقي حينما تحقق قوله تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
( سورة الشمس )
قال : أحاطته برعايتها وعطفها وحنانها ، ولم تبادر إلى سؤاله عمَّا حدث ، وهذا من ذوقها الرفيع ـ أحياناً الإنسان سكوته كمال ، أحياناً حديثه غير الهادف نقص ، أحياناً إن سكت في موقف ، فالسكوت أعلى درجات الكمال ـ بل انتظرت حتى هدأت نفسه الشريفة ، وذهب عنه ما كان يجد من اضطراب ، عندئذٍ سألته ، فقصَّ عليها ما رأى وأخبرها بما سمع وقال لها : " لقد خشيت على نفسي " ، فقالت له رضي الله عنها بكل ما أوتيت من ثقةٍ وحزمٍ : " كلا والله ما يخزيك الله أبداً " ، وفي رواية للبخاري : " كَلاَّ أَبْشِرْ " ، هذا هو الدعم الداخلي ، هذا هو التثبيت ، هذا هو العقل ، " كلا والله ما يخزيك الله أبداً " ، هذا النص له روايات كثيرة:
" إنك تحمل الكَل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الدهر ، وما يخزيك الله أبداً " .
[الزهري عن عائشة]
الكمال البشري حازه النبي في أعلى درجة :
ذكرت لكم في درسٍ سابق أن كل إنسانٍ له عملٌ طيب ينبغي أن يثق بالله عزَّ وجل ، والله لن يخزيه أبداً .
بعض كتَّاب السيرة له تعليقٌ لطيف على هذا الموقف الرائع ، يقول : " لكِ الله يا أم المؤمنين ما أعقلكِ ، وما أحزمكِ ، وما أصدق فراستكِ ، وما أعظم ثقتكِ بربكِ سبحانه ، من في النساء من تقول مثل كلمتكِ هذه ، وتقف من زوجها مثل موقفكِ الكريم هذا ؟! " . هناك نساء كثيرات يُسَفِّهن موقف أزواجهن ، الموقف الكامل ، الموقف المُخلص ، الموقف الذي ينمُّ عن حبٍ لله عزَّ وجل ، وعن إيثارٍ لطاعته ورضوانه ، زوجةٌ جاهلةٌ تسفِّه موقف زوجها ، وتكون عبئاً عليه ، وليست في خدمته .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : " صدَّقته في أول وهلة " ، لذلك قالوا : إن السيدة خديجة هي أول إنسانٍ ـ وكلمة إنسان تشمل الذكور والإناث ـ أول إنسانٍ تؤمن برسول الله تؤمن به نبياً ورسولاً ، قال : وهذا يدل على قوة يقينها ، ووفرة عقلها ، وصحَّة عزمها . الحقيقة أن المرأة جعلها الله عزَّ وجل محبَّبةً للرجال ، ولكن المرأة العاقلة ، المرأة المؤمنة لها مكانةٌ عند ربها وعند زوجها أضعاف مضاعفة ، بل أضعاف لا تعدُّ ولا تحصى .
مرَّةً ثانية : ذكَّرته بعمله الطيب :
(( إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ))
[الزهري عن عائشة]
وفي روايةٍ للإمام البخاري :
(( إنك تصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة ))
[البخاري عن عائشة]
هذه الخصال التي جمعتها للنبي عليه الصلاة والسلام كمال الإنسان ، فالكمال البشري حازه النبي في أعلى درجة ، السيدة خديجة كما ذكرت في درسٍ سابق لم تكتف رضي الله عنها بهذا ، بل ذهبت مع رسول الله إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، الذي سبق أن حدَّثته عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قبل زواجها منه ، وأخبرها ورقة أنه سيكون في هذه الأمة نبيٌ حان أوان ظهوره كما مرَّ معنا .
المعركة بين الحق والباطل تُعلي قدر أهل الحق وتؤكِّد ثباتهم وصدقهم :
تضيف بعض الروايات أن النبي كان قد ذهب إلى ورقة مع صاحبه أبي بكر قبل هذه المرَّة أيضاً ، ففيها أن النبي قال للسيدة خديجة رضي الله عنها :
(( إني إذا خلوت وحدي أرى ضوءاً ، وأسمع نداءً : يا محمد أنا جبريل ، وقد والله خشيت أن يكون هذا أمراً ، فقالت : معاذ الله ما كان الله ليفعل هذا بك ، إنك لتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث ))
[الزهري عن عائشة]
لما دخل أبو بكرٍ ذكرت خديجة حديثه لها وقالت : " اذهب مع محمدٍ إلى ورقة بن نوفل فإنه رجل يقرأ الكُتُب فيذكر له ما يسمع " ، فانطلقا ، فقصَّا عليه فقال : إذا خلوت وحدي سمعت نداءً خلفي : يا محمد أنا جبريل ، فأنطلق هارباً ، قال ورقة : سبوحٌ سَبوح ، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي يعبد فيها الأوثان ، جبريل أمين الله تعالى على وحيه بينه وبين رسله ، لا تفعل إذا أتاك ، فاثبت حتى تسمع ما يقول ، ثم ائتني فأخبرني " .
إذاً يستنبط أن ورقة بن نوفل كان على علمٍ بأمر النبي عليه الصلاة والسلام وما يحدث له .
أيها الأخوة ، لهذا الرجل الحصيف العاقل الذي يقرأ الكُتُب قولٌ آخر ، قال :
" هذا الناموس الذي نزَّله الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك " . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ))
[البخاري عن عائشة أم المؤمنين]
قال : " نعم لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عوديَ ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزَّراً " ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي .
هناك تعليقٌ لطيف على هذه الرواية : لحكمةٍ أرادها الله جعل الحق والباطل في كل مكان وفي كل زمان ، والمعركة بين الحق والباطل معركةٌ أزليَّةٌ أبديَّة ، ولولا أهل الباطل لما ارتقى أهل الحق ، إن هذه المعركة بين أهل الحق وأهل الباطل هي التي تُعلي قدر أهل الحق ، وتؤكِّد ثباتهم ، وصدقهم ، وحبهم ، وشوقهم لربهم .
تصور أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام كانوا في مكة ، وليس فيها مشركٌ ولا كافر ، ليس فيها مشكلة ؛ ولا معارضة ، ولا تكذيب ، ولا تسخيف ، ولا تنكيل ، ولا إخراج ، ولا تضييق ، جاء الوحي فسعد به النبي ، ونطق به ، وسعد به أصحابه ، ليس هناك خروج من مكة ، ولا هجرة ، ولا قتال ، ولا بدر ، ولا أُحد ، ولا خندق ، ولا شيء إطلاقاً ، كيف يرقى أصحاب رسول الله ؟ الإنسان لا يرقى إلا حينما يقابل المتاعب ويصبر ، لا يرقى إلا إذا ظهر صدقه ، وظهر ثباته ، هذا ينقلنا إلى موضوعٍ آخر .
الإنسان حينما يلتزم جانب الصواب يدفع ثمن هذه الطاعة حتى يشعر بقيمتها :
لو أن إنسان له دخلٌ كبير من معصية شنيعة ثم تاب من توِّه عن هذه المعصية ، لو أن الله جدلاً أعطاه دخلاً أكبر بمجرَّد أنه قد تاب ، هذا الإنسان الذي تاب لا يشعر بقيمة توبته ، ما نقص عليه شيء ، أما حينما يقل دخله بعد أن تاب إلى الله ، ويدفع ثمن طاعته ، وثمن إيثاره ، هذه المتاعب التي يعانيها هي التي تثمِّن عمله ، هي التي تسمو به عند الله عزَّ وجل ، فالإنسان حينما يلتزم جانب الصواب هناك ما يسمى بثمن هذه الطاعة ، ثمن هذه الطاعة إن لم يدفعه لا يشعر بقيمة هذه الطاعة .
مثلاً أحياناً يلتزم شاب في أسرة ، ويستقيم ، يدع كل سهرةٍ مختلطة ، يدع كل نُزهةٍ مختلطة ، يدع كل وليمةٍ مختلطة ، يدع كل شيءٍ يبعده عن ربه ، يلزم دروس العلم ، يأتي المساجد ، فالظاهر هذا الشاب حُرم هذه الولائم ، وحُرم هذه السهرات ، وحرم هذه النزهات ، وحرم هذه المباهج ، لولا أنه حُرمها لما كان لطاعته معنى .
أيها الأخ الكريم لا تتألَّم حينما تدفع ثمن طاعتك ، أبشر ، واستبشر ، وكن سعيداً إذا دفعت ثمن طاعتك ، يؤكد هذا المعنى قول الله عزَّ وجل :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (28)﴾
( سورة التوبة )
أي أن هؤلاء المؤمنين حينما رفضوا دخول المشركين مكة تنفيذاً لأمر الله عزَّ وجل ؛ قلَّ دخلهم ، وقلَّت رواج سلعهم ، وضاقت عليهم الدنيا قليلاً ، هذا هو ثمن الطاعة ، فإذا دفعوه في المستقبل عوَّضهم الله عزَّ وجل كل شيءٍ فاتهم :
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (28)﴾
( سورة التوبة )
هذا الدرس لنا ، فأنت حينما تلتزم قد تضيع منك فرصٌ كثيرة ، قد يضيع منك أعمالٌ كثيرة ، دخولٌ كثيرة ، هذه إذا ضاعت منك معنى ذلك أنك دفعت ثمن طاعتك ، معنى ذلك أنك ارتقيت بهذا ، أما لو أن كل إنسان آثر الحق ، جاءته الدنيا كأكثر ما تكون مباشرةً ، ما عاد لهذه الطاعة من معنى ، ولا عاد لهذه الطاعة من ثمن .
حال النبي الكريم بعد نزول جبريل بأول آيات القرآن :
أيها الأخوة الكرام ، وبعد أن نزل جبريل بأول آيات القرآن الكريم ، نزولاً كما مرَّ معناه :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾
( سورة العلق )
فتر نزول الوحي بعض الوقت ، كما جاء في حديث السيدة عائشة فقالت :
" ثم فتر الوحي ، ثم أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلَّم قوله الكريم :
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)قُمْ فَأَنْذِرْ (2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾
( سورة المدثر )
بعد أن ظهر له جبريل بهيئته المَلَكِيَّة ، روى الطبري عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال :
(( جاورت بحراء ـ بغار حراء ـ فلما قضيت جواري ـ أي جاورت ربي ، خلوت مع ربي الأيام ذوات العدد ـ هبطت ، فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئاً ، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، أتيت خديجة فقلت : دثروني دَثروني ، وصوبوا عليَّ ماءً بارداً قال : فدثروني وصبوا عليَّ ماءً بارداً فنزلت :
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)قُمْ فَأَنْذِرْ (2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾
( سورة المدثر )
وفي روايةٍ ثانية :
((بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زمِّلُوني ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)قُمْ فَأَنْذِرْ (2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾
( سورة المدثر )
فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ ))
[البخاري عن جابر بن عبد الله]
بعد الظهور الكامل من جبريل عليه السلام عرف النبي الكريم مهمته وتمَّت له النبوة :
الآن مقدماتٌ كثيرة ، وإرهاصاتٌ كثيرة ، ورؤيا صادقة كفلق الصُبح ، ونداءٌ من مجهول : " أنت نبي هذه الأمة يا رسول الله " ، ثم جاء الوحي ، ثم نزل قوله تعالى :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾
( سورة العلق )
ثم رأى النبي جبريل بصورته الكاملة يملأ ما بين السماء والأرض ، ثم استقر عند النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه نبيُّ هذه الأمة وأن الله أرسله ليكون رحمةً مهداة للعالمين .
بعد الظهور الكامل من جبريل عليه السلام ، ظهرت للنبي صلى الله عليه وسلَّم طبيعة المهمة المكلَّف بها ، وعرف صلى الله عليه وسلَّم مهمته ، وتمَّت له النبوة ، واستبانت معالم الرسالة ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)﴾
( سورة الشرح )
أي أن النبي عليه الصلاة والسلام شرح الله له صدره ، ما الذي كان يقلقه قبل شرح الصدر ؟ يقلقه أنه عرف الله ، ولكن لم يعرف السبيل إلى هداية قومه ، عرف الله ورأى قومه في ضلالٍ مبين ، عرف الله وسمت نفسه ورأى قومه في مستنقعٍ آسن ، عرف الله وأشرقت روحه ، ورأى قومه يتناحرون ، ويأكل بعضهم أموال بعض ، ويعتدي بعضهم على أعراض بعض ، رأى مجتمعه في مستنقعٍ آسن ، ورأى جاهليةً هي حضيض المستوى الذي وصلت إليه البشريَّة .
السيدة خديجة رضي الله عنها أول سبَّاقةً إلى الإسلام :
أيها الأخوة الكرام ، هذه السيدة خديجة رضي الله عنها كانت سبَّاقةً إلى الإسلام . بالمناسبة يقول عليه الصلاة والسلام :
(( ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة إلا أبو بكر))
[رواه رزين والديلمي بمعناه في مسند الفردوس عن ابن مسعود]
الدعوة إلى الإسلام عامَّة ، ولكن الاستجابة متفاوتة ، فالسيدة خديجة كانت أول سبَّاقة إلى الإسلام ، بادرت أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها إلى الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلَّم ، والتصديق بنبوَّته ، فهي سبَّاقة الخلق إلى الإيمان والإسلام رضي الله عنها وأرضاها . واتفق العلماء على هذه الحقيقة :
قال ابن عبد البر : " هي أول من آمن بالله عزَّ وجل ورسوله صلى الله عليه وسلَّم " ، وهذا قول قتادة ، والزُهري ، وعبد الله بن محمد ، وابن إسحاق ، وجماعة .
قالوا : "خديجة أول مَن آمن بالله عزَّ وجل من الرجال والنساء " ، ولم يستثنوا أحداً ، إذاً حينما آمنت برسول الله كانت الإسلام كلَّه .
قال ابن الأثير : " خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة " .
بالمناسبة هذا السبق له قيمة كبيرة جداً ، أحياناً الإنسان حينما يقوى الحق ويظهر ويأخذ مكانه الطبيعي ، ويصبح الحق ذا قوةٍ ظاهرةٍ ، الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ، أما حينما يكون الحق ضعيفاً ، يحتاج إلى من يدعمه ، الناس ينصرفون عنه خوفاً على سلامتهم ، أو خوفاً على أموالهم ، لذلك ليسوا سواء ، من آمن قبل الفتح له عند الله مكانة كبيرة ، فهذا الوقت له قيمة كبيرة جداً ، أحياناً يكون الشيء إذا انتسبت إلى هؤلاء كان انتسابك إليهم مغرماً أما حينما يكون انتسابك إليهم مغنماً ليس لك أجر ، فالبطولة لهؤلاء الذين أسلموا وكانوا سبَّاقين في إسلامهم .
أقوال بعض العلماء في السيدة خديجة رضي الله عنها وإسلامها المبكر :
قال محمد بن كعب : " أول من أسلم في هذه الأمة برسول الله خديجة رضي الله عنها " .
قال : اتفق العلماء على هذا ، بينما اختلافهم في أول من أسلم بعدها ، الخلاف لا على أنها أول من أسلمت ، الخلاف أول من أسلم بعدها .
قال ابن هشام في السيرة : " وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدَّقت بما جاءه من الله ، وآزرته على أمره ـ أي أعانته على أمره ـ وكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدَّق بما جاء به ، فخفَّف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلَّم ، لا يسمع شيئاً مما يكرهه من ردٍ عليه وتكذيبٍ له فيحزنه ذلك ، إلا فرَّج الله عنه بها ، إذا رجع إليها ؛ تثبِّته ، وتخفِّف عنه ، وتصدِّقه ، وتهوِّن عليه أمر الناس رحمها الله تعالى " .
هذه عبارة لطيفة أعيدها على أسماعكم : " ، وكانت أول من آمن بالله ورسوله ، وصدَّق بما جاء به ، فخفَّف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلَّم ، لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍ عليه ، وتكذيبٍ له فيحزنه ذلك ، إلا فرَّج الله عنه بها ، إذا رجع إليها ؛ تثبِّته ، وتخفِّف عنه ، وتصدقه ، وتهوِّن عليه أمر الناس رحمها الله تعالى " .
قال بعضهم : "إن سبب إسلامها السريع هو ما رأته من إرهاصاتٍ ، ومبشراتٍ ، ودلائل مبكِّرة على نبوة النبي عليه الصلاة والسلام" .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : " ومن مزايا خديجة أنها ما زالت تعظِّم النبي " .
الإنسان أحياناً التعامل اليومي المباشر لا يبقي للإنسان عند أهله هذه المكانة الكبيرة التي يراها الناس له ، أما زوجةٌ هو زوجها ، وقد أنجب منها الأولاد ، وله عندها مكانةٌ عظيمة ، رأته نبياً عظيماً ، والعلاقات الحميمة دائماً تُضْعِف هذه النظرة ـ أي بالمألوف ـ العلاقات الحميمة بين الزوج وزوجته تضعف مكانة الزوج عند زوجته ، هذا شأن معظم الناس ، أما هذه السيدة العظيمة مع أنها زوجته ، وقد رزقه الله منها الولد ، ومع ذلك كانت ترى نبوَّته ، ورسالته ، وكماله ، وكانت لا تعامله على أنه زوجها بقدر ما تعامله على أنه نبيٌ ورسول ، هذا شيء ليس من السهل على المرأة أن تكون فيه .
نصب النبي الراية على قبر خديجة عند فتح مكة إعلاماً لفضلها وسبقها في الإسلام :
كانت تعظِّم النبي ، وتصدق حديثه قبل البعثة وبعدها ، وبعد أن دخلت في دين الإسلام ، علَّمها النبي صلى الله عليه وسلَّم الوضوء والصلاة كما علَّمه جبريل عليه السلام .
قال ابن هشام : " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم خديجة فتوضَّأ ليريها كيف الطهور للصلاة ، كما أراه جبريل ، فتوضَّأت كما توضَّأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كما صلَّى به جبريل ، فصلَّت بصلاته ، وهكذا أصبحت خديجة بنت خويلد القُرشيَّة ، الزوجة الأولى للنبي عليه الصلاة والسلام ، وتبوَّأت مقام أم المؤمنين " .
أي أن جبريل علَّم النبي الوضوء ، وعلَّم النبي خديجة الوضوء ، وجبريل صلى برسول الله فتعلم كيف يصلي ، وصلى النبي بالسيدة خديجة فعلَّمها كيف تصلي ، إذاً هذه مكانةٌ عليَّة لا ينبغي أن تكون إلا في أعلى مقام ، والدليل :
عندما فتح الله على النبي صلى الله عليه وسلَّم مكة المكرَّمة ـ هكذا قرأت ـ قال انصبوا لي خيمةً عند قبر خديجة ، وقد ورد معنا قبل درسين أو ثلاثة أنه نصب راية المسلمين عند قبر خديجة ، لأنها رضي الله عنها ما فرحت بالنصر ، توفِّيت قبل أن يفتح الله على نبيِّه مكة ، جاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، خديجة رضي الله عنها لم تعش إلى هذا الوقت الذي متَّع الله به النبي صلى الله عليه وسلَّم بالفتح والنصر المبين لذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يشير إلى فضلها في معاونته ، فنصب الراية على قبر خديجة إعلاماً لفضلها وسبقها في الإسلام .
والحمد لله رب العالمين