طريق الفلاح لمن أراد الإصلاح جلست كثيرًا أفكِّر في واقعنا الحاليِّ، وما تمرُّ به أمَّتُنا من نكبات
وأزمات، وتصارُعِ قُوى الخير والشَّر، وجُند الشيطان وجند الرَّحمن؛
مُحاوِلةً تشخيص الحالة؛ لأجد لها مخرجًا.
فوجدتُ أن الأزمة ليست
وليدةَ اليوم أو الأمس، بل هي قديمة جدًّا، منذ أن خلق الله آدم، ﴿ إِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ *
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا
إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ
نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ
رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 71 - 83].
فقد أقسم إبليس أن يُضِلَّ بني
آدم، ويتخذهم جنودًا يحاربون الله، ولكن أرسل الله الرُّسل؛ ليوضحوا الحقَّ
ويُظهروه، ويحاربوا الشرَّ ويَدْحضوه، والحرب بين أولياء الشيطان وأولياء
الرحمن قائمةٌ إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ولكنَّها تتزايد كلَّما
مرَّت الأيام.
عن الزُّبير بن عديِّ قال: أتينا أنسَ بن مالك - رضي
الله عنه - فشكونا إليه ما نلقى من الحَجَّاج، فقال: ((اصبِروا؛ فإنَّه لا
يأتي عليكم زمانٌ إلا الَّذي بعده شرٌّ منه، حتى تلقَوْا ربَّكم))؛ سمعته
من نبيِّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - رواه البخاري.
﴿ قَالَ
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ *
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾
[الأعراف: 16 - 17].
وفي أيامنا هذه، واقترابِنا من الساعة، زاد
الشرُّ واستفحل، وزادت شوكة أهل الباطلِ وأولياء الشيطان؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ
أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ﴾
[مريم: 83]؛ فإبليس هو رأس الشرِّ وقائدُه، وهو من يوحي لأوليائه، وزاد
اتِّصاله بِهم، وغوايته لهم إلى الحد الأقصى هذه الأيام، بل ظهر عبَدة
الشَّياطين في بلاد المسلمين، وهم يتصلون به اتِّصالاً مباشرًا، ولا تخفى
عليكم الماسونيَّة الصِّهيونية، وتسخيرها للجنِّ وعبادتها للشيطان؛ ﴿ إِنْ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا
شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ
عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [النساء:
117 - 120].
الحرب بين إبليس وبني آدم قديمة، والعداوة متأصِّلة
منذ أن رفض السجود لأبينا آدم، وأعلن حقَّه في التمرُّد على أوامر الإله،
وتكبَّر وتجبَّر، فطُرِد من الجنة، وحلَّت عليه اللعنة، فأقسَم أن يجعل
كلَّ بني آدم يعبدونه من دون الله.
أمَّا عن تلبيسه فسأتكلم عمَّا
فعله مع أبينا آدم؛ كيف أقسم بالله له أنَّه من الناصحين، وكيف زيَّن له
معصية الله، وجعلها مصلحة، حيث زيَّن له الأكل من الشجرة بأنها شجرة الخلد،
ومُلك لا يَفنى، وأقسم له أنه من الناصحين؛ ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾
[الأعراف: 22]؛ أيْ: أظهر الأمر وكأنه مصلحة، وهو في حقيقته وباطنِه
العذابُ الأليم، لم يقصد أبونا معصيةَ الله، وإنَّما زيَّن له الشيطانُ
الباطلَ، ووضعه في صورة برَّاقة لامعة، تُذهل العقل وتسرق اللُّب، فتهفو
إليه النَّفس، ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ
فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 121 - 122].
وكما أن المشكلة
قديمة، فإن حلَّها أيضًا قديم، وليس وليد اللحظة، فالمشكلة هي تلبيس إبليس،
واتِّباع النفس الأمَّارة بالسوء، إنَّه التلبيس والتزيين، ﴿ وَعَصَى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ
وَهَدَى ﴾ [طه: 121 - 122].
لقد كانت مشكلة آدم التي زلَّ بسببها،
هي عدم الاعتصام بالنَّص، عدم الاعتصام بأمر الله ونَهيِه، فقد نَهاه الله،
فما كان ينبغي له أن يعصي ربَّه، حتى لو قال له عقله: إن المصلحة في ذلك،
إنَّها حرب الإنسان مع الشيطان، ولن ننجو منها إلا بقوة الاعتصام بربِّ
الإنس والجان، وتحقيق العبودية لله والثقة بدين الله.
فهل نثق في
الإسلام؟ هل نثق في أنه تشريع ربَّاني معصوم؟ هل نثق في حكمة الله؟ وهل نثق
في أن ربَّنا يعلم الماضي والحاضر والمستقبل؟ هل نثق في أن الله مَن خلق
الإنسان، ويعلم ما يصلح له وما لا يصلح، ويعلم هذا الكون وما سيجري له؛ فهو
صنعته وخَلْقُه؟ هل نعلم أن الله أكمل الإسلام، وجعله آخر الأديان، ورضاه
لنا؟ هل نحن متيقِّنون أن الإسلام مُصلح وصالِح لكل زمان ومكان، قال تعالى:
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123].
فقوله
تعالى: ﴿ فَلَا يَضِلُّ ﴾ لفظ يشمل النجاة من أي نوع من أنواع الضَّلال,
وقوله تعالى: ﴿ وَلَا يَشْقَى ﴾ أيضًا لفظ يشمل عدم الشقاءِ في الدُّنيا
ولا في الآخرة.
قال ابن عبَّاس: "ضَمِن الله لمن تبع القرآن ألاَّ
يَضِلَّ في الدُّنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا الآية"؛ أخرجه ابن أبي
شيبة في "المصنَّف"، وسنده حسن.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة -
رحمه الله -: "وعامَّة هذه الضَّلالات إنما تطرق مَن لم يعتصم بالكتاب
والسنة, كما كان الزهري يقول: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسُّنة هو
النجاة".
وقال مالك: "السُّنة كسفينة نوح؛ مَن ركبها نَجا، ومن تخلَّف عنها غرق وهوى".