أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
فجأة أطلق أحد رجال الكنيسة الأرثوذكسية القبطية بمصر تساؤلا، هو أقرب إلى الاتهام، أثار ردود فعل غاضبة داخل مصر وخارجها؛ لكونه يمس عصمة القرآن الكريم. التساؤل الذي طرحه القس بيشوي يدور حول ما إذا كانت آيات قد أضيفت إلى القرآن الكريم، في إشارة إلى الآيات التي تتعلق بالمسيح والعقائد النصرانية في الصلب والتثليث والقول بألوهية نبي الله عيسى عليه السلام. ورغم أن التساؤل له سياقه السياسي في الواقع المصري الذي يشهد توترات في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين يرجعها كثير من المتخصصين في الشأن القبطي إلى الطموحات السياسية للبابا شنودة الثالث الذي تولى منذ ما يقرب من أربعين عاما. وقد شهد عهده حالة من الصراع لم تكد تنقطع بسبب المنحى الطائفي الذي اتخذته كنيسة الإسكندرية منذ توليه، فضلا عن أن مؤشرات قوية تشير إلى أنه سعى بشكل مخطط؛ لأن تصبح الكنيسة دولة داخل الدولة، أو على الأقل أن تحتكر التمثيل السياسي للمسيحيين.
وأيا كانت السياقات التي يمكن وضع تصريحات القس بيشوي فيها فإن تساؤله يظل من الناحية العلمية شبهة ينبغي الرد عليها بوضوح وبلغة علمية موضوعية؛ حتى لا يكون الاحتجاج والاعتراض الرد الوحيد على تساؤله المفخخ الذي يكاد أن يكون اتهاما بتحريف المصحف.
من فم الرسول لمصحف عثمان وقبل أشهر من هذا التصريح الذي أثار غضبا واسعا صدر في القاهرة كتاب يجيب بحقائق جديدة وبلغة علمية رصينة عن التساؤل، فرغم إيماننا بأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ القرآن كما في قوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (سورة الحجر: 9)، فإن الرد على شبهات غير المسلمين يقتضي الاستناد إلى "الوقائع" قبل "العقائد". الكتاب عنوانه: "وثاقة نقل النص القرآني الكريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمته" (الناشر: دار الآداب – مصر- الطبعة الأولى 2010م) ومؤلفه الأستاذ الدكتور محمد حسن جبل الأستاذ غير المتفرغ بكلية القرآن الكريم (وأستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر). الكتاب عمل علمي رصين يحكي قصة نقل القرآن بالتتبع الدقيق للنقل الشفاهي والكتابي وقت النزول وفي حياة الرسول حتى "مصحف عثمان" عبر ما يقرب من أربعمائة صفحة. الباب الأول يتناول النقل الشفاهي عبر عشرة فصول تتضمن فصلا تمهيديا عن معنى التلقي والعرض. والقرآن أوحي إلى الرسول فأخذه بـ "التلقي" إما بسمعه أو بقلبه، وقد سجل القرآن الكريم مدى حرص الرسول على ترديد ما يتلقاه من وحي بلسانه توقيرا له وليثبت معناه في نفسه، فنهاه الله عن ذلك، قال تعالى: "لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه". (سورة القيامة: 16 - 17). وحفل القرآن بأمر واضح من الله للنبي بأن يتلو القرآن على أمته؛ فكانت تلك الوسيلة الأولى لتبليغ الوحي للمؤمنين. وكانت الصورة المثلى لتحقيق التلقي بمعناه الكامل: "الإقراء" و"العرض"، فكان الرسول يُـقرئ بعض الصحابة، ثم يسمع منهم ما حفظوا ليتأكد من صحة الحفظ وهو "العرض". وكان النبي نفسه يعرض القرآن على جبريل عليه السلام. وقد كان هناك قيد على معنى العرض هو أن يكون عن ظهر قلب، أي دون النظر في كتاب أو ما شابهه. وقد حفظ لنا مؤرخو القراءات أسماء طبقة من الصحابة عرفوا بأن كلا منهم عرض القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن هؤلاء كانوا مقسمين إلى طبقات بناء على معايير محددة.. فالصحابة الذين ورد ذكرهم في الطبقة الأولى عرضوا القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم- حسب الإمام الذهبي- سبعة: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت الأنصاري، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء عويمر بن زيد الأنصاري، رضي الله عنهم جميعا). ومن الإضافات الثرية التي جاءت بدراسة الدكتور محمد حسن جبل أنه استدرك على مؤرخي القراءات، فأضاف عددا من الصحابة إلى هذه الطبقة، هم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأثلة بن الأسقع، ومعاذ بن جبل، وفضالة بن عبيد الأنصاري، وأنس بن مالك، وشهاب القرشي. وهذه الطبقة تلقت القرآن مشافهة- لا بالكتابة- عن النبي الذي تلقى وحي السماء بشخصه. وبهذا العدد تكون هذه الطبقة- وهي الأهم على الإطلاق- تزيد عن الحد الأدنى من العدد الذي يتحقق به "تواتر النقل" زيادة واضحة، وهو بين الخمسة والعشرة. أما الطبقة الثانية من الحفاظ فتضم- عند المؤرخين- اثني عشر صحابيا وتابعيا، هم: أبو هريرة، وعبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن السائب، والمغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وحطان بن عبد الله الرقاشي، والأسود بن يزيد النخعي، وعلقمة بن قيس النخعي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعبد الله بن عياش، وأبو رجاء العطاردي، وأبو الأسود الدؤلي، وأبو العالية الرياحي. وقد استدرك المؤلف على هذه الطبقة مضيفا كلا من: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبادة بن الصامت، وعقبة بن عامر الجهني. وقد أحصى مؤرخو القراءات عدد مَن ساهموا في حفظ القرآن شفاهة بالتلقي والعرض حتى الطبقة الثامنة عشرة في القرن الثامن الهجري بأربعة وثلاثين وسبعمائة قارئ مع تعيين من تلقى عنه كل منهم، وصولا بالتسلسل غير المنقطع حتى الرسول صلى الله عليه وسلم. أمة تحرس كتابها ويناقش الدكتور محمد حسن جبل في الفصل الرابع صور تبليغ القرآن شفاهيا (جماعيا) بغير عرض، فكان يُسمِع القرآن مَن حضر مجلسه، ومن يدعوهم للإسلام، ومن يُصلُّون خلفه، وعلى جمهور المسلمين إذا نزل عليه وهو في السفر، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يُـقرئ بعض أصحابه بصورة فردية كأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، بل إنه كان يأمر أصحابه الحافظين بأن يُقرئوا حديثي العهد بالإسلام. وقد أحصى المؤلف ثلاثة وعشرين من الصحابة والصحابيات كان كل منهم يحفظ القرآن كاملا عن ظهر قلب في حياة النبي. الباب الثاني من الكتاب يتناول "التدوين الخطي" للقرآن، وكان الصحابي الجليل شرحبيل بن حسنة أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن كتابه أيضا عثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الصيفي، وغيرهم. ويحشد الكاتب عددا كبيرا من الشواهد على "فورية التدوين"، ما ينفي عن القرآن أي احتمال للتراخي بين نزوله وتدوينه كما حدث مع التوراة والإنجيل اللذين كتبا بعد سنوات طويلة من تنزيلهما، والفاصل بين التنزيل والتدوين- في الصورة الحالية للنص- هو عدة قرون، حيث كتبت على الأرجح في حقبة السبي البابلي. وإلى جانب التدوين الفوري كان هناك ضمان موضوعي آخر يتمثل في المعارضة (أي المراجعة) وهو ما كان يحرص عليه الرسول. وأروع ما يكشف عنه الكاتب عند تناوله الجمع الأول للقرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أن أبا بكر الصديق قال لعمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، وكانا المكلفين بمهمة الجمع: "اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه"، فالقاعدة هي الإشهاد والأمة كلها مؤتمنة على كتاب الله، وليس وديعة بيد طبقة كهنوتية مغلقة، أثبتت التجارب أنها ليست حارسا على الوحي ولا حافظة له، بل كانت هي مَن حرفته بنفسها.