قال عبد الله الترجمان :
(( .. [ فيما أتفق لي في أيام مولانا
أبي العباس أحمد وولده مولانا أبي فارس عبد العزيز ]
وبعد خمسة أشهر من إسلامي , قدّمني السلطان لقيادة البحر بالديوان فكان
مراده بذلك أن أحفظ اللسان العربي فيه بكثرة ما يتكرّر علي من ترجمة
التراجمة بين النصارى والمسلمين , فحفظت اللسان العربي في مدة عام , وحضرت
لعمارة الجنويز ولفرانسيس على مدينة ( مهدية )[1] وكنت أترجم للسلطان ما
يرد من كتبهم , وارتحلت مع السلطان إلى حصار ( قابص )[2] وكنت على خزائنه ,
ثم إلى حصار ( قفصة )[3] وفيه ابتدأ مرضه الذي مات فيه , ثالث شهر شعبان
عام ستة وتسعين وسبع مئة .
ثم تولى الخلافة بعده ولده مولانا أمير
المؤمنين , وناصر الدين أبو فارس عبد العزيز , فجدد لي في أيامه بالديوان
وأنا قائد البحر والترجمة .
.. وإن مركباً قدم موسوقاً بسلاع
المسلمين , فلما أرسى بالمرسى دخل عليه مركبان من " صقلية " فأخذاه لحينه
بعد أن هرب المسلمين منه برقابهم , واستولى النصارى على أموالهم ؛ فأمر
مولانا أبو فارس صاحب ولاية الديوان وشهوده , أن يخرجوا إلى حلق الواد
ويتحدثوا مع النصارى في فداء أموال المسلمين , فخرجوا وطلبوا الأمان
لترجمان كان معهم فأمنوه , فصعد إليهم لمراكبهم وتحدث معهم في الوزن
فغلَّوا في ذلك ولم يحصل منه شيء , وكان قد ورد مع هذا المركب قسيس كبير
القدر في " صقلية " , وكانت بيني وبينه صداقة كبيرة كأنها أخوّة إذ كنا
نطلب العلم معه جميعاً , وسمع بإسلامي فصعب عليه فقدم في هذه المراكب
ليستدعيني للرجوع إلى دين النصارى , ويأخذني بالصداقة التي كانت بيننا .
فلما أجتمع بالترجمان الذي صعد إليهم للمراكب , قال له : ما أسمك ؟
قال : علي .
فقال له : يا علي .. خذ هذا الكتاب وبلّغه للقائد عبد الله قائد البحر
عندكم بالديوان , وهذا دينار فإذا رددت لي جوابه نعطيك دينار آخر ؛ فقبض
منه الكتاب والدينار وجاء لحلق الوادي فأخبره بما قال لهُ القسيس وبالكتاب
الذي أعطاه وبالدينار الذي أستأجره به , فأخذ صاحب الديوان الكتاب وترجمه
لهُ بعض التُجّار الجنوبيين , فبعث بالأصل والنسخة لمولانا أبي فارس
فقرأه ثم بعث إلي فحضرت بين يديه , فقال لي : يا عبد الله .. هذا كتاب وصل
من البحر فاقرأهُ وأخبرنا بما فيه ؛ فقرأته وضحكت , فقال لي ما أضحكك ؟!
فقلت لهُ : - نصركم الله - هذا كتاب مبعوث إلي من قسيس كان من أصدقائي في
الأول , وأنا أترجمه لكم الآن - إنشاء الله تعالى – .
فجلست في
ناحية وترجمته بالعربية , ثم ناولتهُ - أي المترجمة - فقرأها ثم قال لأخيه
المولى إسماعيل : والله العظيم ما ترك منه شيئاً , فقلت لهُ : يا مولي
وبأي شيء عرفت ذلك ؟ قال : بنسخة أخرى ترجمها الجنويّون ، ثم قال لي : يا
عبد الله .. وماذا عندك أنت في جواب هذا القسيس ؟ فقلت : يا مولاي .. الذي
عندي ما علمته منّي من كوني أسلمت باختياري , ورغبة في دين الحق , ولست
أجبه إلى شيء مما أشاره إلي قطعاً , فقال لي : قد علمنا صحة إسلامك ولا
عندنا فيك شك أصلاً ولكن " الحرب خدعة "[4] , فأكتب إليه في جوابك أن يأمر
صاحب المركب أن يفادي سلع المسلمين ويرخص عليهم , وقل لهُ إذا اتفقتم مع
تجار المسلمين على سعر معلوم , فإني أخرج مع الوزَّان بقصد وزن السلع , ثم
أهرب إليكم بالليل .
ففعلت ما أمرني به وأجبت القسيس بهذا ففرح
وارخصوا على المسلمين في فداء متاجرهم , وخرج الوزَّان مراراً ولم أخرج
معه , فأيس مني ذلك القسيس فأقلع مركبه وأنصرف إلى خذلان الله .
وكان نص كتابه أما بعد : ( السلام من أخيك فرنصيص القسيس : نعرفك أني وصلت
إلى هذا البلد برسمك لأحملك معي , وأنا اليوم عند صاحب ( صقلية ) بمنزلة
أن أعزل , وأولي , وأعطي , وأمنع , وأمر جميع مملكته بيدي , فاسمع مني
وأقبل إلي على بركت الله تعالى , ولا تخف ضياع مال ولا جاه وغير ذلك , فإن
عندي من المال والجاه ما يغمر الجميع وأعمل لك كل ما تريد ) انتهى .. )) .
---------------------------
1/ أي أنه كان من جملة المسلمين الذين دافعو عن المهدية عندما حاصرها
الأسبان . والمهدية : مدينة بقرب القيروان اختطها المتغلب على تلك البلاد
في سنة ثلاثمائة . راجع : آثار البلاد وأخبار العباد ، زكريا القزويني ,
دار صادر بيروت .
2/ قابص أو قابس كما عند الحموي : مدينة بين طرابلس وسفاقس على ساحل البحر . معجم البلدان ، ياقوت الحموي ، حرف القاف .
3/ قفصة : بلد صغير من ناحية المغرب قريبة من القيروان ، معجم البلدان ، حرف القاف .
4/ هذه العبارة أصلها حديث صحيح رواه الإمام مسلم عن عمرو بن العاص وجابر بن عبد الله – رضي الله عنهما - .