[size=21]بابلو بيكاسو
أحد
عباقرة الفن التشكيلي وواحد من أبرز الشخصيات الفنية خلال القرن العشرين،
تأتي الذكرى الـ 36 لوفاته في الثامن من إبريل 1973، ونتذكر فنان مختلف
ثائر تزخر جعبته الفنية بالعديد من اللوحات الرائعة والتي تميزت بالتفرد
والإبداع، امتد تأثيره على مختلف المدارس الفنية خلال الفترة التي تواجد
بها، وتنتشر أعماله الفنية في مختلف أنحاء العالم، وتضمها أعظم المتاحف.
ومثلما كان بيكاسو فنان يرسم بيده
العديد من اللوحات الرائعة، كان قلبه عاشقاً مكتظاً بالعديد من النساء
واللاتي أصبحن مصدر إلهام للكثير من لوحاته.
النشأة
ولد
بيكاسو في الخامس والعشرين من أكتوبر 1881، بمدينة مالقا الأندلسية
بأسبانيا، وكان الابن الأول لدون خوسيه رويز بلاسكو، وماريا بيكاسو لوبز،
وتنتمي عائلة بيكاسو للطبقة الوسطى، كان والده رساماً أيضا تخصص في رسم
الطبيعة والطيور، وكان رويز - الأب - يعمل كأستاذ للفن لفترة كبيرة من
حياته.
الأب أول مدرس لبيكاسو
المنزل الذي ولد به بيكاسو في مالقا
أظهر بيكاسو شغف واضح ومهارة
بالرسم في فترة مبكرة من حياته، وطبقاً لما قالته والدته فإن أول الكلمات
التي نطق بها بيكاسو كلمة "لابيز" وهي كلمة أسبانية تعني قلم رصاص، وفي
السابعة من عمرة تلقى بيكاسو أولى دروسه في الرسم على يد والده، فتدرب على
الأشكال المختلفة والرسم الزيتي.
وكان رويز فنان أكاديمي تقليدي
يؤمن بأن التدريب المناسب على الرسم يأتي من خلال محاولة مضاهاة الشكل
الأصلي المستوحى منه الرسم، ورسم الجسم البشري، والأشكال الحية، وأصبح
الرسم هو الشغل الشاغل لبيكاسو بعد ذلك.
انتقلت العائلة إلى لاكورونا في
عام 1891 وذلك ليتمكن الأب من العمل كمدرس بمدرسة الفنون الجميلة هناك،
وظلوا هناك لمدة أربع سنوات، وفي إحدى المرات عثر الأب على اسكتش لابنه
يضم لوحة غير مكتملة لحمامة، ولاحظ الدقة التقنية في رسم بيكاسو هنا شعر
الأب بأن ابنه صاحب الثلاثة عشر عاماً قد فاجأه.
في عام 1895 هز عائلة بيكاسو حادث
مأسوي حيث توفيت شقيقته التي تبلغ من العمر سبع سنوات، وعقب وفاتها انتقلت
العائلة إلى برشلونة، وانتقل الأب ليعمل بمدرسة الفنون الجميلة بها، وحاول
إقناع المسئولين بأكاديمية الفنون الجميلة بالسماح لأبنه بالدخول لامتحان
القبول بالأكاديمية، وغالباً ما كان الطلاب يجتازوا هذا الامتحان خلال شهر
إلا أن بيكاسو تمكن من إنهائه في أسبوع فقط، مما جعله ينال استحسان لجنة
التحكيم.
كما قام والده بتأجير غرفة صغيرة
له قريبة منه لكي يتمكن بيكاسو من العمل فيها على انفراد، ويتمكن الوالد
من تفقد ابنه في معظم فترات النهار ويحكم على لوحاته ويبدي ملاحظاته فيها.
الأكاديمية الملكية
قرر كل
من والد وعم بيكاسو أن يرسلا الفنان الشاب إلى مدريد للالتحاق بأكاديمية
"سان فيرناندو" الملكية، وهي المدرسة الرسمية للفن بالبلد، وذلك في عام
1897، وكان حينها في السادسة عشر من عمره وكانت هذه هي المرة الأولى التي
يستقل فيها بيكاسو في حياته، ووجد صعوبة في التأقلم مع التعليمات الصارمة
فتوقف عن حضور الصف لفترة، وفي مدريد تردد بيكاسو على متحف ألبرادو والذي
يضم العديد من اللوحات المميزة لكل من فرانسيسكو دي غويا، ديجو فلاسكيز،
وغيرهم غير أن أعمال دومينكو الجريكو كانت أكثر ما أثار إعجاب بيكاسو.
المرحلة الزرقاء عند بيكاسو
عقب
دراسته بمدريد قام بيكاسو بأول رحلاته إلى باريس عام 1900 عاصمة الفن في
أوروبا، وهناك التقى بأول أصدقائه الفرنسيين الشاعر والصحفي ماكس جاكوب،
والذي قام بتعليم بيكاسو اللغة الفرنسية والأدب، وتشارك الاثنان في إيجار
غرفة فكان ماكس يعمل أثناء النهار وينام بالليل على العكس من بيكاسو الذي
كان ينام نهاراً ويعمل ليلاً، وكانت هذه من أقسى الأوقات التي عاشها
بيكاسو حيث اليأس والبرد والفقر، حتى أنه كان يضطر أحياناً لحرق الكثير من
أعماله ليحفظ الدفء في الغرفة الصغيرة، وتزامنت هذه الفترة مع المرحلة
الفنية لبيكاسو وعرفت "بالمرحلة الزرقاء".
خلال الخمسة أشهر الأولى من عام 1901 عاش بيكاسو في مدريد، حيث قام هو وصديق له يدعى فرانشيسكو دي أسيس بتمويل مجلة للفن.
في عام 1905 أصبح بيكاسو الفنان
المفضل لدى جامعي اللوحات الفنية من الأمريكان مثل ليو وجيرترود شتاين،
وأخوهم الأكبر مايكل شتاين وزوجته، وقام بيكاسو برسم بورتريهات لهم، وعملت
جيرترود على تجميع العديد من لوحات بيكاسو وأقامت لهم معرض غير رسمي في
منزلها بباريس، وفي إحدى هذه التجمعات التقى بيكاسو مع الفنان هنري ماتيس
والذي أصبح صديقه ومنافسه لمدى الحياة.
شارك بيكاسو في عام 1907 بمعرض
للفنون تم افتتاحه في باريس بواسطة دانيل هنري كانويلر وهو مؤرخ ألماني
للفن، وجامع لوحات، واحد تجار اللوحات الفرنسية خلال القرن العشرين، وأصبح
وقت بيكاسو مقسم بين كل من برشلونة وباريس.
بيكاسو العاشق
عرف
بيكاسو بتعدد علاقته النسائية، أو كما قيل عنه أنه كان ينساق دائماً وراء
الجمال، فكان يقول "المرأة في نظري، خليط من الأشكال والألوان".
في عام 1904 التقى بالفنانة
البوهيمية "فرناند أوليفييه" وكانت فنانة مغمورة، أصبحت سريعاً عشيقة
لبيكاسو، وظهرت في الكثير من لوحاته في الفترة الوردية من حياته، وعقب
حصوله على الشهرة والثروة ترك بيكاسو أوليفييه، ولم ينتظر كثيراً فسرعان
ما ظهرت "ايفا" في حياته تلك الشابة الجميلة والتي عشقها وعبر عن حبه لها
في الكثير من لوحاته التكعيبية، ولكن صدم بيكاسو بوفاتها مبكراً عام 1915
وهي في الثلاثين من عمرها بعد معاناتها من المرض، وعلى الرغم من ذلك لم
يهمل بيكاسو فنه فقدم أثناء ذلك لوحته "البلياتشو".
وبالإضافة للعشيقات تزوج بيكاسو
مرتين وله أربعة أبناء من ثلاث نساء، ففي عام 1918 تزوج من أولجا كوخكلوفا
راقصة بالية روسية، قدمته للطبقة الراقية من المجتمع، وصحبته لحفلات
العشاء الرسمية، وجميع الحفلات الاجتماعية التي كان يحضرها الأغنياء وعلية
القوم، وكانت بالطبع موديل لإحدى لوحاته والتي عرفت باسم "المرأة ذات
الوشاح"، وأنجب منها ابنه باولو.
في عام 1927، قابل بيكاسو فتاة في
السابعة عشر من عمرها تدعى ماري تيريز والتر، وظلت علاقتهما سراً، وسرعان
ما انتهى زواجه من أولجا بالانفصال وليس بالطلاق لان القانون الفرنسي ينص
في حالة الطلاق أن تحصل الزوجة على نصف الثروة، وهو الأمر الذي لا يريده
بيكاسو وظل الزواج قائماً بينهما من الناحية القانونية فقط حتى وفاة أولجا
عام 1955، وظلت علاقته مع ماري تيريز على أمل أن يتزوجها بيكاسو في يوم ما
وقامت بشنق نفسها بعد وفاته بأربع سنوات، وأنجبت له أبنته "مايا".
لوحة دورامار والقطة
كانت
المصورة والفنانة التشكيلية "دورا مار" هي الأخرى واحدة من عشيقات بيكاسو،
وأقترب الاثنان من بعضهما البعض في أواخر عام 1930 وبدايات 1940، وكانت هي
من وثقت لوحته "جيرنيكا"، وكانت إحدى الوجوه التي ضمتها العديد من لوحات
بيكاسو مثل لوحة "المرأة الباكية"، "ودورامار والقطة" وغيرها.
عقب
تحرر باريس عام 1944 أثناء الحرب العالمية الثانية تعرف بيكاسو على إحدى
دارسات الفن التشكيلي الشابات والتي تدعى "فرانسواز جوليت"، وأصبح الاثنان
عاشقان خلال فترة قصيرة، وأنجبا طفلين هما كلاود وبالوما، ولكن قامت
جولييت بترك بيكاسو عام 1953 وذلك بسبب سوء المعاملة والخيانة وكان هذا
بمثابة ضربة قاسية لبيكاسو.
عانى بيكاسو من مرحلة قاسية عقب
انفصاله عن جولييت، وأصبح في هذه المرحلة العمرية أقل جاذبية، ولكنه سرعان
ما تعرف على حب أخر وهي جاكلين روك، وظل بيكاسو معها لبقية حياته وكانت
الزوجة الثانية في حياته حيث تزوجا عام 1961.
السياسة في حياة بيكاسو
عاصر
بيكاسو ثلاثة حروب الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الأسبانية
الأهلية، وقد رفض بيكاسو المشاركة في الحرب لصالح أي دولة، وتم وصف موقفه
من قبل بعض المعاصرين أنه اقرب إلى الجبن أكثر من كونه تمسكاً بالمبادئ،
وقامت إحدى المقالات الصادرة في نيويورك بوصفه قائلة " أنه جبان ويفضل أن
يظل جالساً بعيداً عن الحربين العالميتين بينما أصدقائه يعانون ويموتون في
الحرب".
في عام 1944 انضم بيكاسو إلى الحزب
الشيوعي الفرنسي وشارك في مؤتمر بولندا الدولي للسلام، وفي عام 1950 استلم
جائزة لينين للسلام من الحكومة السوفيتية، وظل بيكاسو حتى نهاية حياته عضو
مخلص في الحزب الشيوعي.
وخلال الحرب
العالمية الثانية، ظل بيكاسو في باريس في الوقت الذي احتلت فيه القوات
الألمانية المدينة، لم يكن الأسلوب الذي يتبعه بيكاسو في فنه متناسب مع
وجهة النظر النازية للفن، لذلك لم يتمكن طرح أعماله الفنية خلال هذه
الفترة، وعلى الرغم من ذلك استمر بيكاسو في الرسم في الأستوديو الخاص به.
فن بيكاسو
المرحلة الوردية
تم
تقسم فن بيكاسو إلى عدد من الفترات منها الفترة الواقعية 1895 – 1901،
الفترة الزرقاء وهي في الفترة بين 1901- 1904، والفترة الوردية 1905-
1907، وفترة التأثير الإفريقي 1908- 1909، والفترة التكعيبية التحليلية
1909 – 1912، والتكعيبية التركيبية 1912 – 1919، وبعض أعمال الحفر والنحت
والخزف.
تزامنت "المرحلة الزرقاء" في فن
بيكاسو مع بداية وجوده بباريس، وتميزت لوحاته فيها بطغيان اللون الأزرق
البارد، واستلهم موضوعاتها من الأحياء الفقيرة فرسم نساء باردات حزينات،
وأطفال مرضى بائسين ومتسولين ومسنين، وغلب على هذه اللوحات الوحشة واليأس
والكآبة، وفي هذه الفترة أنجز العديد من أعمال الحفر أيضاً.
أتت بعد ذلك المرحلة الوردية 1905-
1907 والتي أنتقل فيها ألوان أكثر دفئاً مثل القرمزية والوردية والرمادية،
وتخلى عن الوجوه النحيلة المنزعجة التي رسمها في الفترة الزرقاء، وتضمنت
لوحاته مشاهد من السيرك والبهلوانات.
جاءت بعد ذلك مرحلة التأثير
الإفريقي 1908- 1909 وفيها تأثر بيكاسو بالتماثيل والأشكال الزنجية
البدائية، وفي هذه الفترة قدم لوحته الشهيرة " فتيات أفينيون" والتي جاءت
متناقضة مع القواعد التقليدية لمقاييس الجمال المتعارف عليها، وكانت ثورة
ضد ما هو سائد.
ظل بيكاسو في تطوير مستمر لأسلوبه
الفني وكان رائد التكعيبية والذي أخذ على عاتقه مهمة تطويرها إلى جانب
النان براك، توالت بعد ذلك لوحات بيكاسو التي تأثر فيها بالكثير من
المؤثرات فقدم لوحة "الراقصات الثلاثة" 1925 وهي محاكاة لاذعة لرقص
الباليه الكلاسيكي، ومن الأساطير استوحى لوحات "الحصان المحتضر"،
و"المينطور".
جيرنيكا
[size=21]
في
عام 1937 بدأ فن بيكاسو يأخذ شكل أخر فبعد القصف الوحشي الذي تعرضت له
بلدة "جيرنيكا" قام برسم واحدة من أروع أعماله وهي لوحة جدارية "جيرنيكا"
والتي قدمها كصرخة احتجاج وإدانة للوحشية والدمار التي تعرضت له تلك
البلدة، وفيها صور أهوال الحرب الأهلية في أسبانيا في الفترة ما بين 1936-
1939 وبعد الحرب العالمية الثانية رسم بيكاسو لوحات مشوهة بها الكثير من
الحزن والعذاب مثل لوحة "البيت المقبرة"، وقال في ذلك: ''إن اللوحات لا
ترسم من أجل تزيين المساكن، إنها أداة للحرب ضد الوحشية والظلمات''.
وتعرض
لوحة "جيرنيكا" في متحف الملكة صوفيا للفنون المعاصرة بمدريد، ويضم متحف
بيكاسو الوطني في باريس مجموعة رائعة من أعمال هذا الفنان، وتزخر جعبة
بيكاسو بالعديد من الأعمال الفنية الرائعة والتي تنوعت بين اللوحات
والتماثيل والقطع الفنية الخزفية، ومن أشهر لوحاته في الفن التكعيبي
"فتيات أفينيون".
الوفاة
توفى بيكاسو في الثامن من إبريل
1973 بموجان بفرنسا بعد تجاوز التسعين، وذلك أثناء دعوته هو وزوجته لبعض
الأصدقاء لتناول العشاء، وكانت أخر كلماته التي قالها " أشربوا نخباً،
أشربوا نخباً من أجلي فأنتم تعلمون أنني لن أستطيع الشرب بعد الآن".