بسم الله و الصلاة و السلام على رسول الله
كان مشروع فعال ذو نظرة دعوية للعودة الى الاصل الفطرية بالاشتغال بالقران و الله موفق
و رحم الله .. شيخنا و استاذنا فريد الانصاري
..
"المنهاج الفطري" في الدين والدعوة جميعاً. قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[الروم: 30].
و"المنهاج
الفطري" أو "الفِطْرِيَّةُ" – كما سنشرحها بحول الله – منهاج دعوي يقوم على
تلقي حقائق الإيمان من القرآن وبياناته النبوية، وعلى الإسهام في تجديد
الدين في النفس والمجتمع على ذلك الوِزَانِ.
وهو لذلك يسعى - بالتعاون مع العلماء الربانيين، والشباب المتفاعلين - إلى الأهداف التالية:
- أولا: الدعوة إلى إعادة الاعتبار
لمركزية القرآن الكريم في الدعوة والتربية والتكوين، وفي تلقي حقائق
الإيمان، واستنباط أصول العمل الدعوي وقواعده. قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء: 9].
- ثانيا: الدعوة إلى اعتماد منهجية
القرآن في التربية والدعوة، بالدخول في تطبيق وظائف النبوة الثلاث: تلاوة
الآيات، وتزكية الأنفس، والتعلم والتعليم للكتاب والحكمة. قال سبحانه:
﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ
لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾[آل عمران: 164].
- ثالثا: الدعوة إلى تأسيس "مجالس
القرآن" بشروطها الربانية، وضوابطها المنهجية؛ قصد مدارسة كتاب الله – جل
جلاله – وتدبر آياته، وتلقي رسالاته الإيمانية، واكتشاف الْهُدَى المنهاجي
الكامن فيها، ثم تَبَيُّنِ مسلك التخلق بأخلاقه الربانية، وتشجيع تأسيس تلك
المجالس ونشرها في كل منطقة وقطاع، والتعاون على تأطيرها، ومساعدتها علميا
ومنهجيا. قال جل جلاله: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾[آل عمران: 79].
وقال سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا﴾[محمد: 24]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَا اجْتَمَعَ
قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ
وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ،
وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ
اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ! وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ
نَسَبُهُ!)(جزء حديث أخرجه مسلم )
- رابعاً: الاجتهاد في التعريف برسالات
"الْهُدَى الْمِنْهَاجِي" للقرآن الكريم، عِلْماً مستقلا من علوم القرآن،
وأصلاً من أصول فقه الدعوة. وأما المعنى العام لمفهوم "الْهُدَى
الْمِنْهَاجِي" فهو: ما تَحَصَّلَ للقلب بالتدبر للآيات، من رسالات
إيمانية، وقواعد منهاجية، تُوَضِّحُ خطوات السير القلبي إلى الله ديناً
ودعوةً، وتَعَرُّفاً إليه تعالى وتعريفاً، وتبين مسلك التخلق بأخلاق
القرآن، وبيان كيفيته العملية؛ من أجل بناء الشخصية الإسلامية، في كل ما
يلزمها من معانٍ تعبدية وعمرانية، مما جاء هذا القرآن لبنائه في الإنسان
فرداً وجماعةً، في طريق إخراج الأمة المسلمة. ولذلك فإن "الهدى المنهاجي"
دائر - على العموم - حول معاني الرسالات الإيمانية والتربوية والدعوية،
المكنونة في آيات القرآن الكريم.
- خامساً: التعاون على تطوير فقه دعوي أصيل، مستنبط من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة؛ وذلك بالتعاون على ما يلي:
أ- محاولة تشخيص أمراضنا وعللنا الإيمانية.
ب- محاولة تشخيص خَلَلِنَا المنهاجي في الدين والدعوة، فهماً وتطبيقاً.
ج- محاولة تلمس وصفات العلاج بمنهج التدارس للقرآن الكريم، والتلقي لحقائقه الإيمانية وهداه المنهاجي.
أما مفهوم "الفطرية" فهو راجع – كما ذكرنا - إلى اعتماد "المنهاج الفطري" في الدين والدعوة. وبيان ذلك هو كما يلي:
الفطرية: منهاج في الدين والدعوة
الفِطْرَةُ – كما ستتبين بأدلتها – هي:
ذلك السر الكامن في قلب الروح، إنها الجوهر المكنون للخلق الإنساني، والسر
المصون للوجود البشري، فهي أم اللطائف، ومرجع الأسرار في المعنى الوجودي
لحقيقة "الإنسان". بكمالها يكمل مفهوم الإنسان، وبنقصها ينقص معناه،
وبانخرامها الكلي يخرج عن طبعه وحده إلى دَرَكِ المعنى البَهَمِيِّ لجنس
الحيوان!
فأي مس لها وأي خدش يؤدي حتما إلى اضطراب – على قدر ذلك المس
وذلك الخدش - في المعنى الوجودي للإنسان، وإلى تخبط نفساني واجتماعي؛ بما
يفيض منها على وجوده الروحاني والجسماني من معاني الحياة! ذلك أنَّ
لِجُرُوحِ الفطرة درجاتٍ، تماما كما لجروح الجسد، فخدش الجلد ليس كشق
اللحم، ولا هذا ككسر العظم، ولا هو كبقر البطن أو طعن الصدر! فعلى قدر
التغيير لطبيعتها يكون حجم الفساد في الأرض! إذ هي من أخص خصائص الصنع
الإلهي، والتكوين الرباني للخَلْق البشري.
ولذلك كانت الفِطْرَةُ – بما هي "اسم
هيأة" كما يقول النحاة - هي الصورة النفسانية الأولى التي خلق الله عليها
الإنسان، بما سوَّاها عليه من توازن وكمال. أي قبل تدخل اليد البشرية
العابثة فيها بالخرم والخدش.
ومن هنا كان تدخل الإنسان فيها
بالتغيير والتبديل مغامرة خاسرة قطعا؛ لأنه تدخل فيما لا علم له به من أمر
خلقه وماهية وجوده! ولذلك كان ممنوعا من مد يده الطائشة إلى صندوقها قصد
محاولة العبث بسرها! إذ فساد شيء من حقيقتها لا يمكن تلافيه بأي إصلاح جهول
من عنده، أو أي استدراك بليد من علمه! بل لا بد فيه من تدخل ثان لخالقها
العظيم، الذي لا تعجزه الإعادة كما لم يعجزه البدء! ( قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ
عَلِيمٌ)(يس:79). فهو وحده - سبحانه - العليم بأسرارها، الخبير بطبيعة
تركيبها. (ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ؟)(الملك: 14).
ذلك هو مقتضى البيان النبوي العميق من
قوله صلى الله عليه وسلم : (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ
يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ
تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟)(متفق عليه، من رواية أبي هريرة مرفوعا.
) وفي رواية مسلم زيادة مهمة، نصها: (كَمَا تَنْتِجُونَ الْإِبِلَ فَهَلْ
تَجِدُونَ فِيهَا جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا!)
فتدبر! ما أعجبَ هذا الكلام النبوي العميق!
فلا يكون التدخل في هذا المعنى اللطيف
الممنوع إذن، إلا هوى وضلالاً! ولذلك جعل الله الدين أساس الصيانة لهذا
السر العجيب في معنى الوجود الإنساني. وهو مقتضَى هذا النص القرآني العظيم:
((بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن
يَهْدِي مَن اَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ. فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا. لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ. وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.))(الروم:29-31).
ففطرة الله التي فطر الناس عليها، هي
صورة الروح المؤمنة، المجبولة على صفاء الإخلاص لله، بما هو رب العالمين،
الخالق وحده لكل شيء، المستحق وحده للعبادة من دون كل شيء. من هنا يبدأ
تصور معنى الفطرة فيتفرع بعد ذلك إلى كل أعمال الدين، سواء في ذلك ما كان
من الروحانيات أو من الجسمانيات. لأن الدين هو المؤهل وحده على تحديد معنى
الفطرة، وهو المؤهل وحده على صيانتها ورعايتها.
وأما مصطلح "الفِطْرِيَّةِ" فهو مصدر صناعي مأخوذ من الفطرة؛ للدلالة على معنى "المنهاج الفطري" في التزام الدين والدعوة.
وأما حَدُّهَا فهو:
إِقَامَةُ الوَجْهِ للِدِّينِ
حَنِيفاً، خَالِصاً للهِ؛ وذلك بِمُكَابَدَةِ القُرْآنِ ومُجَاهَدَةِ
النَّفْسِ بِهِ تَلَقِّيّاً وبَلاَغاً؛ قَصْدَ إِخْرَاجِهَا مِنْ
تَشَوُّهَاتِ الْهَوَى إلَى هُدَى الدِّينِ الْقَيِّمِ؛ ومِنْ ظُلُمَاتِ
الضَّلاَلِ إلَى نُورِ الْعِلْمِ بِاللهِ.
فبناء على هذا التعريف؛ تكون
"الفِطْرِيَّةُ" بمثابة عملية إصلاحية وجدانية، تقوم أساسا على تصحيح ما
فسد من فطرة الإنسان، المجبول أصلا على إخلاص التوحيد، وإصلاح ما أصابها من
تشوهات تصورية وسلوكية، في شتى امتداداتها العمرانية.
ذلك مقتضى الآيات - عِبَارةً وإشارةً وسياقاً – مما أوردناه من سورة الروم، في مفهوم "فطرة الله".
ومن
ثم فالفطريةُ دائرة من حيث المنهج على تلقي رسالات القرآن، من خلال تلقي
آياته كلمةً كلمةً، ومكابدة حقائقه الإيمانية مَنْـزِلَةً مَنْـزِلَةً، إذ
لا تَخَلُّقَ للنفس إلا بمعاناة! ولا تخلص لها من أهوائها إلا بمجاهدة!
فالقرآن هو خطاب الفطرة، من حيث هي راجعة إلى "إقامة الوجه للدين"،
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا). وقد كان ذلك - منذ كان - بتلقي آيات القرآن، وما تجدد
قط في التاريخ إلا بتجديد التلقي لها، بناءً وتربيةً وتثبيتاً، على مُكْثٍ
من الزمان.
ذلك هو المنهج الدعوي الأصيل الذي يصرح به القرآن: (وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلاً)(الفرقان: 32). (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنـزِيلاً)(الإسراء: 106). وتلك هي
الحكمة الأولى من تنجيم القرآن على مدى ثلاث وعشرين سنة!
ومن هنا كان مدار التربية
الفِطْرِيَّةِ ومحورها الأساس، إنما هو كتاب الله جل علاه، إذْ هو كتاب
الفطرة الذي عليه استقامت يوم قامت، وعليه يجب أن تستقيم كلما انحرف بها
المسار. ولا يكون ذلك إلا بأن تستأنف تلقي حقائقه الإيمانية مرة أخرى،
وتتغذَّى من روحه العظيم، تخلقا وتحققا، ثم تشتغل ببلاغ ما تلقته بالمنهج
نفسه – أعني تخلقا وتحققا - أي بتلقين ذلك للآخرين عبر مجالس القرآن، التي
هي المحاضن التربوية للفطرية، وأحد أهم مسالكها الإصلاحية.
إن حجم التشوهات الحاصلة في إنسان هذا
العصر البئيس، وما عليه من انحرافات تمتد من العقائد والتصورات والمفاهيم،
إلى الممارسات والتصرفات والأخلاق، وسائر ضروب الأذواق؛ لتنبئ عن عمق
التشوه الذي أصابه في فطرته التي فطره الله عليها، بما هو إنسان!
إن خطورة التشوهات المعاصرة أنها قد
عمت بها البلوى؛ بصورة توهم الأجيال أنها هي الوضع الطبيعي للإنسان! وأن
الشذوذ والانحراف إنما هو في عكسها!
إن طبيعة المرض اليوم في الحياة
الإسلامية العامة والخاصة، أعمق من أن تعالجه يد بشرية قاصرة، لا خبرة لها
ولا اختصاص! إن اختلال سر الفطرة في الإنسان اليوم في حاجة ماسة إلى تدخل
الرحمة الإلهية، بما تملك من معاني الربوبية وشؤونها العظمى، المحيطة
بأسرار الملك والملكوت! فلا يستطيع إصلاح الفطرة البشرية اليوم، وإعادة
تسويتها على أصل خلقتها، إلا الذي فطرها أول مرة! الرب العليم بطبيعة
تكوينها، وخصائص تركيبها؛ بما خلق فيها من لطائف وأسرار! فهو وحده الخالق،
وهو وحده من يملك حق الصيانة والرعاية. (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الزمر: 62).
ومن هنا كان خطاب الوحي – بما هو خطاب
الفطرة حقا - هو وحده المؤهل لإصلاح العطب الحاصل في محركات العمل الإسلامي
المعاصر، والقادر على ترشيد السير وتصويب الاتجاه، وضبط بوصلة المقاصد
والغايات، وإعادة ترتيب سلم الأولويات. كما أنه هو وحده المؤهَّل لإعادة
تسوية ملامح الصورة الفطرية في النفس الإنسانية على العموم.
إن اشتغال العمل الإصلاحي بإعادة بناء
العمران الروحي للفطرة الإنسانية، مؤد بالضرورة إلى إعادة تجديد العمران
الاجتماعي والمادي للحياة الإنسانية برمتها! سياسةً واقتصاداً واجتماعاً.
إذ ذلك هو المنهاج القرآني الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة
مدة بعثته الشاملة، بما استقرت عليه من كل وظائف النبوةِ، تلاوةً وتزكيةً
وتعليماً.
فإذا صح للعمل الإسلامي هذا وجب أن
يضبط الوسيلة الأساس، ألا وهي اعتماد خطاب الوحي لا غير، القرآن الكريم
وبياناته النبوية. فالقرآن بما هو كلام رب العالمين، المنـزل لهذه الوظيفة
أساسا، هو المؤهل وحده لإعادة بناء هذا النوع من الهدم والردم، الحاصل في
الحياة البشرية اليوم، كما وصفنا وشخصنا. ولك أن تتدبر قوله تعالى في بيان
طبيعة القرآن: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً)(الفرقان:6).
وقال في خصوص وظيفته: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً.)(الفرقان: 32-33).
فإذا صح الأمران معا – الهدف والوسيلة
تشخيصا وعلاجا – ثم شرع أبناء الدعوة الإسلامية فعلا في تطبيق "المنهاج
القرآني الفطري"، كانوا هم أول من يخضع لعملياته الجراحية، من حيث يشعرون
أولا يشعرون؛ لأن الوحي لا يصل إلى الناس إلا بعد أن تشتعل بحرارته قلوبُ
الدعاة إليه، وتلتهب هي ذاتها بحقائقه، وتتوهج بخطابه! فلا نور ولا اشتعال
إلا باحتراق! ولك أن تتدبر معاناة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم،
ومكابدته للقرآن العظيم كيف كانت! وليس عبثا أن يُرْسِلَ – صلى الله عليه
وسلم - هذا الشعورَ العميقَ نفَساً لاهباً بين يدي أصحابه الكرام، قائلا
لهم: (شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا!)(رواه الترمذي والحاكم، وصححه
الألباني في صحيح الجامع. )
فشعور الداعية بأنه هو عينه قد صار
موضوعا للإصلاح، لا آلة له فحسب، وبأن نفسه ذاتها قد صارت حديقة لمقص
القرآن، يشتغل فيها بالتهذيب والتشذيب، وتربة لمائه الصافي الرقراق تتلقاه
بشغف وشوق، ومصباحا لزيته الوهاج تحترق به مواجيدها توهجا واشتعالاً، كل
ذلك علامة على أنه قد دخل في أول خطوات العمل الإسلامي السليم، وانخرط في
مسلك السير الفعلي إلى الله، عبدا لله أولا، ثم داعيا إليه بصدقٍ، جل علاه.
ذلك هو الحق إن شاء الله، وإلاًّ (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ
الضَّلاَلُ؟)(يونس:32).
فقضية الفطرة إذن، هي قضية الدين في
هذا العصر، وهي قضية الإنسان. ومن هنا كانت الفِطْرِيَّةُ مشروعا دعويا
قائما على هذا المعنى، يحمل رسالته التربوية هدفاً ووسيلةً.
تلك فكرة هذا الموقع، وتلك غايته. أما
رواده ومؤسسوه فهم عبادٌ فقراء لله، متذللون بين يديه تعالى.. لا
يَدَّعُونَ مَشْيَخَةً ولا زَعَامَةً! بل يستوي فيهم الطالب والأستاذ، كلهم
جميعا تلاميذ متواضعون بين يدي القرآن.. يرجون رحمة الله ويخافون عذابه!
يسعدون بتوجيهات أهل العلم، ويفرحون بنصيحة أهل الحلم. وإنما رجاؤهم أن
يتقبل الله أعمالهم، ويغفر خطاياهم، ويدخلهم في رحمته! وفقنا الله وإياكم
إلى ما يحب ويرضى، ورزقنا الإخلاص في كل قول وعمل.. وجعلنا من أهل القرآن،
أهل الله وخاصته.. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.