وقفات مع اول سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
"وقفات مع أول سورة هود"
الحمد لله.اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا,وهديتنا وعلمتنا,لك
الحمد بالإيمان ,و لك الحمد بالإسلام,و لك الحمد بالقران. و لك الحمد
بالأهل والمعافاة. بسطت رزقنا و أظهرت أمننا.وجمعت فرقتنا.و أحسنت
معافاتنا.ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا. فلك الحمد على ذلك حمداً
كثيراً.لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث, أو سر أو
علانية,أو خاصة أو عامه,أو حي أو ميت,أو شاهد أو غائب.لك الحمد حتى ترضى.و
لك الحمد إذا رضيت.وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}
أي هذا الكتاب أتقنت و أحسنت آياته, صادقه أخبارها عادله أوامرها ونواهيها فصيحة ألفاظه بهية معانيه.
(ثُمَّ فُصِّلَتْ)أي :ميزت وبينت بيانا في أعلى أنواع البيان.
(مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ)أي يصنع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها لا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه حكمته.
(خَبِيرٍ)مطالع على الظواهر والبواطن.
و إنما انزل الله كتابه لأجل: { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ }
أي لأجل إخلاص الدين كله لله, وان لا يشرك به احد من خلقه.
(إِنَّنِي لَكُم) أيها الناس (مِّنْهُ) أي من الله ربكم (نَذِيرٌ) لمن تجرأ
على المعاصي بعقاب الدنيا و الآخرة, (وَبَشِيرٌ) للمطيعين لله بثواب
الدنيا و الآخرة.
(وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ) عن ما صدر منكم من الذنوب.
(ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ) فيما تستقبلون من أعماركم بالرجوع إليه بالأنابه والرجوع عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه.
ثم ذكر ما يترتب على الاستغفار و التوبة فقال :{يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً} أي يعطيكم من رزقه ما تتمتعون به وتنتفعون.
هذه الآية تدل على إن الاستغفار و التوبة إلى الله من الذنوب سبب لان يمتع
الله من فعل ذلك متاعاً حسناً (إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) أي إلى وقت وفاتكم
(وَيُؤْتِ) منكم (كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي يعطي أهل الإحسان والبر من
فضله وبره ما هو جزاء لإحسانهم من حصول ما يحبون ودفع ما يكرهون.
وجاء في الصحيح: أن رسول الله قال لسعد: "وانك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها..."
(وَإِن تَوَلَّوْاْ) عن ما دعوتكم إليه, بل أعرضتم عنه, وربما كذبتم به
(فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو يوم القيامة
الذي يجمع الله فيه الأولين و الآخرين , وهذا تهديد شديد لمن تولى.
(إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ) ليجازيهم بإعمالهم, إن خيراً فخير وان شرً فشر.
(وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وهو القادر على ما يشاء من إحسانه
إلى أوليائه وانتقامه من أعدائه, و إعادة الخلائق يوم القيامة.
ثم يخبر تعالى عن جهل المشركين وشدة ضلالهم أنهم (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي يميلونها (لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ) أي من الله.
ولكن الله بين خطأهم في هذا الظن(أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) أي يتغطون بها, يعلمهم في تلك الحال.
وهنا يبين الله انه لا يخفى عليه شيء وان السر كعلانية عنده, فهو عالم بما
تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر و الآيات المبينة لهذا كثير.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}
وقال عبد الله بن شداد: كان احدهم إذا مر برسول الله ثنى عنه صدره وغطى رأسه, فانزل الله ذلك.
وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى
فلا تكتمن الله ما في قلوبكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم حساب أو يعجل فينتقم
ولو نظر المتدبر إلى كتاب الله لما قلب ورقة من المصحف إلا وجد آية بهذا المعنى.
(وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ) جميع ما دب على وجه الأرض من ادمي وحيوان بري أو بحري فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم و أقوالهم.
(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) أي يعلم مستقر هذه الدواب
وهو المكان الذي تقيم فيه وتستقر فيه, ومستودعها: المكان الذي تنتقل إليه
في ذهابها وعوارض أحوالها.
كل ذلك (فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) أي في اللوح المحفوظ المعنوي على جميع الحوادث .
يخبر تعالى { وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }
أولها: يوم الأحد و أخرها يوم الجمعة.
وحين خلق السموات و الأرض (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) فبعد أن خلق
السموات و الأرض استوي على عرشه يدبر الأمور ويصرفها كيف شاء من الإحكام
القدرية و الشرعية.
ولهذا قال (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي ليمتحنكم إذ خلق
لكم ما في السموات و الأرض, بأمره ونهيه فينظر أيكم أحسن عملاً.
ولم يقل أكثر عملاً ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً لله على شريعة
رسول الله , فمتى فقد العمل واحداً من هذين الشرطين حبط وبطل.
ثم ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء فقال (وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم
مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ
هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ)
أي ولئن قلت لهؤلاء و أخبرتهم بالبعث بعد الموت لم يصدقوك بل كذبوك اشد
التكذيب وقدحوا فيما جئت به وقالوا (إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ)
ألا وهو الحق المبين.
(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ) أي
إلى وقت مقدر لقالوا من جهلهم وظلمهم (مَا يَحْبِسُهُ) ومضمون هذا تكذيبهم
به فأنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجلاً على كذب الرسول المخبر بوقوع
العذاب.
ولقد استعمل لفظ (الأمة) في القران في أربعة استعمالات:
1- الأول ما ذكر هنا من استعماله الأمة في البرهان من الزمان.
2- استعمالها في الجماعة من الناس, وهو الاستعمال الغالب كقوله (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ).
3- استعمال (الأمة) في الرجل المقتدي به كقوله (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً).
4- استعمال (الأمة) في الشريعة والطريقة كقوله (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ).
ثم إن أولئك الذين كذبوا الرسول يوم يأتيهم العذاب ليس مصروفاً عنهم حينها يتمكنون من النظر في أمرهم.
(وَحَاقَ بِهِم) أي أحاط بهم ونزل (مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) من العذاب حيث تهاونوا به حتى جزموا بكذب من جاء به.
ثم يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان, انه جاهل ظالم , بان الله إذا أذاقه رحمة
كالصحة والرزق و الأولاد ونحو ذلك, ثم نزعها منه فانه يستسلم لليأس ,
وينقاد للقنوط, فلا يرجو ثواب الله ولا يخطر بباله إن الله سيردها أو مثلها
أو خيراً منها عليه.
وانه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته, انه يفرح ويبطر ويظن انه سيدوم له
ذلك الخير ويقول(ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي
يفرح بما أوتي مما يوافق هوى نفسه فخور بنعم الله على عباد الله وذلك
يحمله على الأشر والبطر و الإعجاب بالنفس والتكبر على الخلق واحتقارهم
وازدرائهم, و أي عيب اشد من هذا.
وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله و أخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده.
وهم الذين صبروا أنفسهم عند الضراء فلم ييأسوا , وعند السراء فلم يبطروا, وعملوا الصالحات من واجبات ومستحبات.
(أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ) لذنوبهم, يزول بها عنهم كل محذور.
(وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو الفوز بجنات النعيم التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وجاء في الحديث "والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولانصب ولا وصب
ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه".
وفي الصحيحين "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً
له: إن أصابته سراء فشكر كان خير له وان أصابته ضراء فصبر كان خيراً له
وليس ذلك لأحد غير المؤمن"
يقول تعالى (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا)
قال قتادة: من كانت الدنيا همه ونيته وطلبه جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنه يعطي بها جزاء.
(نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ) تعطيهم ما قسم لهم من ثواب الدنيا.
(وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) أي لا ينقضون شيئاً مما قدر لهم . ولكن هذا منتهى نعيمهم.
(أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ)
خالدين فيها أبداً لا يفتر عنهم العذاب وقد حرموا جزيل الثواب.
(وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا) أي في الدنيا بطل واضمحل ما عملوه مما
يكيدون به الحق و أهله وما عملوه من أعمال الخير التي لا أساس لها ولا
وجود لشرطها وهو الإيمان.
وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.
و الإيمان إيمانان:
- إيمان يمنع من دخول النار وهو الإيمان الباعث على أن تكون الأعمال لله يبتغي بها وجهه وثوابه.
- و إيمان يمنع الخلود في النار وان كان مع المرائي شيء منه و إلا كان من أهل الخلود.
وقال الله نظير ذلك {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا
لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }الشورى20
والله اعلم وصلى الله وسلم على محمد وعلى اله وصحبه وسلم.