د. صالح السلطان
أعرف أن العنوان سيجر نقد واعتراض الكثيرين، لكن من المهم أن نستند إلى مرجعية للنقاش.
لم تنبت كلمة رأسمالية في بيئتنا، ومن ثم لن نجد لها تعريفا في كتب أجدادنا، بل هي عبارة عن ترجمة للكلمة الأعجمية capitalism. لذا فمن المنطق أن تكون المرجعية ما تقوله مصادر الغرب المشهورة عن الكلمة رأسمالية. وحقيقة أتعجب كثيرا من الذين يرون أنفسهم أعلم بمعنى الرأسمالية من علماء الغرب ومصادره.
ماذا تقوله تلك المصادر؟
تفسر المراجع اللغوية والاقتصادية الإنجليزية المشهورة الرأسمالية بأنها نظام اقتصادي يستند إلى هيمنة الأفراد والقطاع الخاص على ملكية وسائل أو عناصر الإنتاج كرأس المال والعمل والأرض، بغرض الربح. وهذا المعنى الذي يمثل جوهر الرأسمالية متفق عليه بين علماء الاقتصاد. انظر، مثلا، المراجع التالية:
,Random House Webster's •
,Oxford Advanced Learner's Dictionary •
,The Dictionary of Modern Economics •
,The Palgrave Dictionary of Economics •
,and Wikipedia •
ولذا تسمى الرأسمالية أحيانا في تلك المصادر باقتصاد السوق.
وعكس الرأسمالية الاشتراكية، التي تعني هيمنة الحكومة على ملكية وإدارة عناصر الإنتاج، بحيث تصبح آلية السوق معدومة إلى ثانوية الأهمية.
ماهية وجوهر الرأسمالية (بالتفسير المعرفي السابق) ينطبق على السلوك الاقتصادي في المجتمع الذي يطبق الشريعة. والرأي السائد لدى المؤرخين الاقتصاديين الغربيين أن احتكاك الغرب بالمسلمين إبان ازدهار الحضارة الإسلامية كان له أثر كبير في تعريف الغرب بميزات اقتصاد السوق والملكية الفردية. ولا شك أن اقتصادات المجتمعات الإسلامية قائمة على أساسهما عبر القرون، بل كانا موجودين قبل الإسلام منذ آلاف السنين، وجاء الإسلام فأبقاهما، ضمن ضوابط.
والمقصود أن الرأسمالية ليست من اختراع الغربيين، لكنها حديثة عليهم، لأن النظام الإقطاعي كان السائد في الغرب قبل الرأسمالية. وربما كان مصدر توهم أنها من اختراع الغربيين أن الثورة الصناعية ظهرت في الغرب، وأنهم هم الذين أعطوا اقتصاد السوق التسمية رأسمالية، لكن العبرة بالحقائق والمضامين.
وتبعا يحق لنا أن نقول بوجود رأسمالية إسلامية، تفريقا عن أنماط أخرى من الرأسمالية، بحيث تعني شرعية وجود اقتصاد قائم على اقتصاد السوق وهيمنة الأفراد على ملكية وإدارة عناصر الإنتاج، مع خضوعه لأحكام وضوابط الشريعة، وهي أحكام يغلب عليها أنها من قبيل القواعد والأصول العامة. وتبقى تفصيلات كثيرة جدا تركت الشريعة أمرها لعقول البشر، مثلا، حجم وعدد المؤسسات الأمثل لتقديم خدمة من الخدمات العامة، وهل تكون حكومية أو خاصة، وكيف تسعر خدماتها ... إلخ.
هل الاحتكار والربا والاستغلال من أركان الرأسمالية؟
يكثر البعض من ترديد عبارة أن من خصائص الرأسمالية الاحتكار.
الكلام السابق عن كون الاحتكار من خصائص أو مقتضيات الرأسمالية غير دقيق. إذا طبقنا التفسير السابق للرأسمالية كما يعرف في الغرب، وجدنا أن الاحتكار ليس من ماهية الرأسمالية، لكنها عارض. ويشبه ذلك القول إن الاحتكار (أو الغش أو ... إلخ) عارض على التجارة وليس من ماهيتها.
وللفائدة، المقصود بعبارة احتكار الانفراد وليس الحبس. ذلك لأن المعنى اللغوي للاحتكار (كما ورد عن العرب وقت ظهور الإسلام) يعني الحبس بغض النظر عن وجود انفراد أم لا.
نقد محتمل للمقال
أتوقع أنه سيوجه إلي النقد التالي: دعك من التعريفات والتفسيرات الموجودة في بطون الكتب وانظر إلى الممارسات والتطبيقات التي نراها بأعيننا عن الرأسمالية.
حسنا أقبل هذا النقد بشرط استطراد التطبيق، بمعنى أن العدل والموضوعية تقتضيان أيضا أن ننظر إلى الممارسات لدى الغير بغض النظر عما يقولونه نظريا.
وربما كان أكبر وأوضح مثال رفضنا لاتهامات الغرب للإسلام والمسلمين حول قضايا شتى، وأنه يجب عليهم التفريق بين المبادئ من حيث هي، وسوء التطبيق أو تطبيقات الناس بصفة عامة.
وتطبيقا أقول إن من المتوقع أن تقود الرأسمالية إلى أو تغري بالوقوع في الاحتكار والاستغلال، لأن الإنسان يحب المال، ولا يشبع ابن آدم من طلب المزيد، ولو باستغلال الناس إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
لكن المشكلة السابقة ليست خاصة بالرأسمالية، فنحن نعرف أن كثيرا من المباحات تغري أو تمارس عند التطبيق بالوقوع في الحرام. فمثلا، يجر تطبيق إكرام الضيف أحيانا إلى الوقوع في الإسراف والتبذير. وبصفة عامة، نرى أن أكثرية الناس تسيء تطبيق كثير من المبادئ. فهل نقول بسقوط كل تصور ومبدأ وممارسة، حينما يساء تطبيقه أو يمارس بخلط ما هو مشروع بما هو ليس بمشروع؟ لا.
كان عنوان مقالي يوم الإثنين الماضي ''أوهام حول البنوك الإسلامية''. وكتب الزميل الدكتور صلاح الشلهوب في عدد الجريدة يوم السبت الماضي مقالا بعنوان ''هل المصرفية الإسلامية مثل التقليدية؟''، ومما جاء في مقاله أن الحكم على النظام المالي الإسلامي لا يمكن أن يتم من خلال بعض الأخطاء في التطبيق. وهذا ما أعنيه بأن العدالة تقتضي استطراد التطبيق.
وإجمالا، يلجأ إلى وضع القيود عند وجود سلبيات، وهذا موجود في كل زمان ومكان. وهذا ما حدث للرأسمالية في عصرنا هذا. وسبق أن وضع الإسلام قيودا على الممارسات التجارية واقتصاد السوق. وعموما، توصف عامة اقتصادات العالم في الوقت الحاضر، بأنها اقتصادات مختلطة mixed economies. والرأسمالية ليست دينا. وبالله التوفيق.
الصياد