لم عبر تعالى عن المطر بكلمة (ودق) ؟
فيوضات
الفضل والرحمة لإغداق الرزق وكرم العطاءات لكافة المخلوقات الحية بالحياة
المائية، إذ من الماء كلُّ شيء حي. فأكْبِر وأعْظِم بمن يهبنا الرزق من
فيوضات فضله العميم لنا ولأنعامنا وكافة المخلوقات.
في
كلِّ سنة وفي كلِّ عام هذا الرحيم الرحمن المحب المتفضِّل علينا يمد لنا
يد المودة بالرزق الذي به بقاء حياتنا ووجودنا لنعيش سعداء مسرورين.
فالودق
وهو المطر سمَّاه تعالى (ودْقاً) لاشتقاقها من المودة في كلمة (وَدَّ) من
المواددة. فهو تعالى يهبنا الحياة بما يرسله لنا من مياه الأمطار ولا يقوم
مقامه في هذه المواددة أحدٌ أبداً وقطعاً، فهو المتفضِّل على الجميع
بالمياه والحياة وبدائع المأكولات والشرابات وغيرها من أسباب الهناءة
والرفاهة وديمومة الحياة حتى الأجل.
كذلك
كلمة (ودْقاً) مشتقة من (ودَّ) و (وقى). فبإرساله تعالى لنا المياه يقينا
من العطش ومن فقدان الرزق بفقدان المواسم، ولولا المطر لحلَّ الشقاء بدل
النعيم بالمأكولات والشرابات، بل لفقدت الحياة لنا ولكافة الأحياء.
فكم
بذلك يواددنا تعالى، ولولا حبه لنا ورحمته بنا لما هادانا كلَّ عام
بالخيرات نتاج الأمطار التي يرسلها والتي بها يواددنا ويحنو علينا ويهبنا
بذلك ديمومة الحياة على وجه البسيطة.
عند
هطول الثلوج وحين تكتسي وجه البسيطة بالثلج الساطع، فتكتسي الدنيا حلة
بهية ساطعة تأخذ بمجامع القلوب، وربما تسمو بقلوب المؤمنين وهم في بحور
التأمُّل وبالفضل الإلهي مشدوهين، عندها يكاد سنا برق هذا الثلج الناصع
يأخذ بالأبصار إلى أنوار ربها ذو الجلال والإكرام، فهي وسائط خير تصل قلوب
المؤمنين لربِّهم الرحيم الذي يغمرهم كلَّ عام بمزيد الفضل والرحمة
والإكرام. عندها يرى الرائي ويا لغرابة ما رأى، إذ يرى مليارات المليارات
من الندف الثلجية وهي تتهاوى من السحاب مترنحةً هائمةً بربِّها.. ولكن
للعجب العجاب لا يمكن لندف الثلج أن تتصادم ببعضها فتراها متداخلةً
متراقصةً متجاذبةً، ولكن لا تلمس ندفة ثلجٍ أيّاً من الندف الأخرى.
وتلك
لعمر الحق إحدى المعجزات، فهي تسير بدقةٍ بالغةِ الإعجاز لا تصطدم ندف
الثلج أبداً ببعضها وهي تهوي من السماء ضمن موازين دقيقة لا تخطأ.
كذلك
الأمطار فإنها لا تهبط كتلة واحدة على الأرض فيحدث الطوفان يُغرق ويُدمِّر
فلا يُونق ولا يُثمر. هذا الطوفان لم يحدث أبداً لأن يد الرحيم الرحمن على
كلِّ قطرةٍ من قطرات الأمطار، فهي تهبط متسارعة إلى الأرض التي قسمها الله
لها لتنتج أزهاراً عطرة بهيجة وأثماراً ومزروعات نتاجها أفخر وألذ
المأكولات والحلويات. هذه الدقة في الندف الثلجية والقطرات المطرية تدلُّك
على رحمة الرحيم ومحبة المتفضِّل الكريم لك ولي ولكافة خلائقه.
فمن بلاغة القرآن وإعجازه بالإيضاح والبيان أن كلمة (ودْق) تحمل هذه المعاني الثلاث التي بيَّناها وأوضحناها.
ـ ففيها المودة من الإله المحب الرحيم بكلمة (وَدْ) من المواددة.
ـ وباجتماع الحرفين الأول والأخير (وَقَ) ما يشير إلى الوقاية بعباده من كلِّ شقاء وحرمان، فهو لا ينساهم في كلِّ عام.
ـ
وكذا باجتماع حرف (الدال) مع (القاف) (دق)، تشير إلى دقة الميزان الإلهي
وأن يده تعالى مبسوطة على كلِّ ندفة ثلج وقطرة مطر، بحيث تأتيك الحياة بها
بلطفٍ ورقة دقةٍ بحيث تسقط ولا يتأذى بها مخلوق وتنتج الخير العميم.
والآن
وقد شاهدنا طرفاً من معنى المطر بلفظة (ودْق) علماً بأنه {قُلْ لَوْ كَانَ
الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ
تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} سورة الكهف
(109).
والحقيقة
أن هذا غيضٌ من فيض وأثرٌ من بعد عين من معاني (ودْقٍ) والتي تشير إلى
معاملاته تعالى إلينا بالهدايا والهبات بالثلوج والغيث في كلِّ عام ما
يجعلنا نميل بقلوبنا إلى هذا الرب البر الرحيم.
ولك
في المعاني التي تتضمنها كلمة (ودْق) مجالات لا تحصى وهي تدعوك إلى
الإيمان بهذا الرب الرحيم الذي يكلؤنا بعيون عنايته شتاءً بمياه الحياة،
وصيفاً بنتاجها من طيب المأكولات ولذيذ الشرابات.
والحمد لله في بدءٍ وفي ختم..
هذا البحث من ثنايا علوم العلامة الكبير محمد أمين شيخو