الصحابة المعتزلون للقتال في الفتنة تباين مواقف الصحابة من القتال في الفتنة :
لما
قتل الخليفة عثمان بن عفان –رضي الله عنه – اختلف الصحابة في أمر قتلته ،
فطائفة طالبت الخليفة الجديد : علي بن أبي طالب-رضي الله عنه – بالإسراع في
الاقتصاص من هؤلاء القتلة ،و طائفة ثانية طالبت عليا بالاقتصاص من القتلة و
جعلته شرطا لمبايعته ، و طائفة ثالثة وافقت هؤلاء في ضرورة الاقتصاص من
قتلة الخليفة الشهيد ، لكنها كانت ترى ضرورة تأخيره حتى تتهيأ الظروف
لتنفيذه (1) .
فالطائفة الأولى مثّلها الصحابيان : طلحة بن عبيد الله ،و
الزبير بن العوام –رضي الله عنهما – و كانا قد طلبا من علي أن يعينهما
واليين ليجمعان له العساكر فلما لم يستجب لهما ، التحقا بمكة المكرمة و بها
استنفرا الناس و جمعوهم للمطالبة بدم الخليفة الشهيد المقتول ظلما و
عدوانا(2) .
و الطائفة الثانية هي أهل الشام ،و في مقدمتها : معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص و النعمان بن بشير –رضي الله عنهم-(1) .
و
أما الطائفة الثالثة فمثّلها الخليفة علي بن أبي طالب، و من معه كابن عباس
،و عمار بن ياسر ،و الحسن و الحسين،-رضي الله عنهم – و بما أن عليا هو
الخليفة فإنه أصر على موقفه في تأجيل القصاص ،و عزم على استخدام القوة تجاه
من خالفه و لم يبايعه من الطائفتين السابقتين ،و أعلن لجنده أن قراره هذا
هو مجرد اجتهاد شخصي و رأي رآه أنه يحقق الطاعة و وحدة الجماعة ، و لم يدع
أن معه نصوصا سمعها من رسول الله – -عليه الصلاة و السلام-(2) .
فهذا
التباين في وجهات النظر ،و الإصرار على المواقف هما اللذان جرا الطوائف
الثلاث إلى الاقتتال ، مما أدى إلى ظهور طائفة رابعة اعتزلت الجميع و نأت
بنفسها بعيدا عن القتال ،و عدتّه فتنة ،و دعت الناس إلى عدم المشاركة فيه .
فمن مثّل هذه الطائفة ؟ و ما هي مبرراتها و أدلتها التي اعتمدت عليها في
اعتزالها للفتنة ؟ .
أشهر الصحابة المعتزلين للقتال في الفتنة :
اعتزل
أكثر الصحابة القتال(1) في موقعتي الجمل و صفين في سنتي: 36-37ه، و أبوا
أن يخوضوا في دماء المسلمين ، فمنهم من اعتزل الفتنة عزلة مطلقة ،و منهم من
اعتزلها و اجتهد في دعوة الناس إلى اعتزالها ، و منهم من انتسب إلى إحدى
الطائفتين المتنازعتين ثم انسحب كلية من الفتنة ، و منهم من اعتزلها في
الجمل و صفين ثم انظم إلى علي في حربه للخوارج ، و منهم من حمد الله تعالى
على ذهاب بصره قبل أن يراها .
فمن الذين اعتزلوا الفتنة مطلقا : سعد
بن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمر ،و محمد بن مسلمة الأنصاري ،و سلمة بن
الأكوع ،و سعيد بن زيد(1) ،و صهيب بن سنان الرومي ،و أسامة بن زيد ،و أبو
هريرة، و هبيب بن مغفل ،و المغيرة بن شعبة(2) ، و عبد الله بن سعد بن أبي
سرح ،و سعيد بن العاص ، و معاوية بن حديج الأمير، و زيد بن ثابت ، و كعب بن
عجرة (3) ،و سليمان بن ثمامة بن شراحيل ،و عبد الله بن مغفل ،و عبد الله
بن سلام ،و أهبان بن صيفي ،و الحكم بن عمرو الغفاري(4)- رضي الله عنهم - .
و
من مواقفهم في اعتزال الفتنة : موقف الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص ، فقد
جاء في خبر صحيح الإسناد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر بن راشد ، عن أيوب
السختياني ،و عن محمد بن سيرين ، أنه قيل لسعد : ألا تقاتل ، فانك من أهل
الشورى ،و انت أحق بهذا الأمر من غيرك ؟ قال : (( لا أقاتل حتى تأتوني بسيف
له عينان ،و لسان و شفتان ، يعرف الكافر من المؤمن ،و قد جاهدت و أنا أعرف
الجهاد ،و لا أبخع نفسي إن كان رجل خيرا مني ))(1)
و ورد في رواية أخرى
أن أحد أبناء سعد بن أبي وقاص ، قال لوالده : نزلت في إبلك و غنمك و تركت
الناس يتنازعون الملك ، فضرب سعد صدر ولده عمر و قال له : (( اسكت سمعتُ
رسول الله – صلى الله عليه وسلم-يقول :إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي
))(2) . و في رواية لأحمد بن حنبل أن سعدا قال لابنه عمر : (( أي بني أفي
الفتنة تأمرني أن أكون رأسا ، لا و الله حتى أعطي سيفا إن ضربت به مؤمنا
نبا عنه ،و إن ضربت به كافرا قتلته ،و قد سمعت رسول الله –صلى الله عليه و
سلم- يقول : ((إن الله عز وجل يحب الغني الخفي التقي )) (3) .
و جاء
رجل إلى سعد بن أبي وقاص ،و قصّ عليه مناما رآه عن الفتنة ، ثم قال له :
مع أي الطائفتين أنت ؟ فقال سعد : ما أنا مع واحدة منهما ، فقال الرجل :
فما تأمرني ؟ قال : هل لك من غنم ؟ قال : لا ، فقال له سعد : فاشتر غنما ،
فكن فيها حتى تنجلي الفتنة (4)
و روى المؤرخ شمس الدين الذهبي –بلا
إسناد- أن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- كان يغبط سعد بن أبي وقاص ،و عبد
الله بن عمر –رضي الله عنهم – و يقول : (( لله منزل نزله سعد و ابن عمر ،
لئن كان ذنبا لصغير ،و لئن كان حسنا إنه لعظيم ))(1) . و قوله هذا صحيح
المعنى و جدير بالتنويه و الاعتبار ، لأن الفتنة جرّت على المسلمين مصائب
كثيرة ،و أورثتهم الفرقة و العداوة ،و البغضاء و الاقتتال ،و لم ينج منها
إلا الذين اعتزلوها .
و أما محمد بن مسلمة الأنصاري –رضي الله عنه – فقد
اعتزل موقعتي الجمل و صفين و اتخذ سيفا من خشب ، و خرج من المدينة إلى
بادية الرّبذة و أقام بها ، و كان ذلك بأمر نبوي ، على ما ذكره الحافظ
الذهبي .و هو من نجباء الصحابة ، شهد بدرا و المشاهد الأخرى (2) . و هو
الذي قال فيه رسول الله –صلى الله عليه و سلم-: (( لا تضرّه الفتنة )) و في
رواية (( لا تضرّك الفتنة ))(3) .
و في رواية(1) للتابعي أبي بردة
بن أبي موسى (ت104ه) أنه مر-أيام الفتنة- بمحمد بن مسلمة بالربذة ، فقال له
: لو خرجت إلى الناس فأمرت و نهيت ، فقال له : قال لي النبي –عليه الصلاة و
السلام- (( يا محمد ستكون فرقة و فتنة و اختلاف ، فاكسر سيفك ،و اقطع وترك
،و اجلس في بيتك )) ففعلت ما أمرني(2) . و هناك أربعة أحاديث أخرى متشابهة
المتون ، فيها أمر نبوي صريح ، لمحمد بن مسلمة باعتزال الفتنة و عدم الخوض
فيها ، أولها أن الرسول –صلى الله عليه و سلم – قال له : (( إذا رأيت
الناس يقتتلون على الدنيا فاعمد بسيفك على أعظم صخرة في الحرة ، فاضربه بها
، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة ، أو منية قاضية )) ، ثم قال محمد
بن مسلمة : ففعلت ما أمرني به رسول الله –صلى الله عليه و سلم ))(3) .
و
الحديث الثاني ، فيه أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- أعطى سيفا لمحمد
بن مسلمة ، -رضي الله عنه – و قال له : (( جاهد بهذا ، في سبيل الله ، فإذا
اختلفت أعناق الناس ، فاضرب به الحجر ، ثم ادخل بيتك ، فكن حلسا ملقى ،
حتى تأتيك يد خاطئة ، أو منية قاضية ))(4)
و في الحديث الثالث ، أن
علي بن أبي طالب – رضي الله عنه- جاء –أيام الفتنة-إلى محمد بن مسلمة ، و
قال له : (( ما خلفك عن هذا الأمر ؟ فقال له : دفع إلي ابن عمك –يعني
الرسول – سيفا و قال لي : قاتل به ما قوتل العدو ، فإذا رأيت الناس يقتل
بعضهم بعضا ، فاعمد به إلى صخرة فاضربه بها ، ثم ألزم بيتك حتى تأتيك منية
قاضية ، أو يد خاطئة )) فقال علي خلّو عنه (1) .
و آخرها –أي الحديث
الرابع- فيه أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام – قال لمحمد بن مسلمة: ((
إنها ستكون فتنة و فرقة و اختلاف ، فإذا كان كذلك فأت بسيفك أُحدا فاضربه
حتى ينقطع ، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة ، أو منية قاضية )) ، ثم
قال محمد بن مسلمة –أيام الفتنة- : فقد فعلت ما قاله لي رسول الله –عليه
الصلاة و السلام -(2) .
و منهم –أيضا- أسامة بن زيد –رضي الله عنه- فإنه
عندما أرسل مولاه حرملة إلى علي بن أبي طالب زمن الفتنة ، قال لمولاه عن
علي ، إنه يسألك عن تخلفي عنه ، فقل له يقول لك : (( لو كنت في شدق الأسد
لأحببت أن أكون معك فيه ، لكن هذا الأمر لم أره ))(1) .و في رواية أخرى عن
معمر بن راشد عن الشهاب الزهري ، أن عليا لقي أسامة –رضي الله عنهما – فقال
له : ما كنا نعدك إلا من أنفسنا يا أسامة ، فلم لا تدخل معنا –أي في
القتال- فقال له : يا أبا حسن ، إنك و الله لو أخذت بمشفر –أي الشفة- الأسد
لأخذت بمشفره الآخر معك حتى نهلك جميعا ، أو نحيا جميعا ، و أما هذا الأمر
الذي أنت فيه ، فو الله لا أدخل فيه ))(2) .
و أما الصحابي سلمة بن
الأكوع ، - رضي الله عنه- فإنه لما استشهد عثمان –رضي الله عنه- و حدثت
الفتنة اعتزل الناس ،و خرج من المدينة إلى بادية الرّبذة و سكنها ، و تأهل
بها و لم يلابس شيئا من الفتنة . و عندما قيل له : لماذا تعرّبت –أي أصبح
أعرابيا- قال : إن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- أذن لي في التعرّب و
سكن البادية (3) .
و منهم الصحابي الجليل : أبو هريرة -رضي الله عنه-
فقد اعتزل الفتنة و لم يلابسها (1) ،و يبدوا أنه اتخذ هذا الموقف تمسكا
بالحديث المشهور عن اعتزال الفتنة ، لأنه هو أحد رواته ، فقد جاء في صحيح
البخاري عن أبي هريرة ، أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- قال : (( ستكون
فتن القاعد فيها خير من القائم ،و القائم فيها خير من الماشي ، و الماشي
فيها خير من الساعي ،و من تشرّف لها تستشرفه ، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا
فليعذبه ))(2) .
و منهم –أيضا- الصحابي أهبان بن صيفي البصري –رضي
الله عنه- فإنه عندما اعتزل الفتنة ، جاءه علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- و
طلب منه أن يلتحق به ، فقال له : نعم ثم دعا جارية له بأن تأتيه بسيفه ،
فأخرجته فإذا هو من خشب ، و قال لعلي : (( إن خليلي ابن عمك -صلى الله عليه
و سلم-عهد إلي إذا كانت الفتنة بين المسلمين ، فاتخذ سيفا من خشب ، فإن
شئت خرجت معك ، قال علي : لا حاجة لي فيك و لا في سيفك (3) .
و منهم
الصحابي عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- ، فقد حرص على ألا يقترب من
الفتنة أبدا ،و لا يكون سببا في قتل أحد ، و كان يقول : من قال حي على
الصلاة أجبته ، و من قال : حي على قتل أخيك المسلم و أخذ ماله ، فلا (1) .و
عندما كلّفه علي بن أبي طالب-بعدما بايعه الناس- بالذهاب إلى الشام ليتولى
إمارته ، اعتذر له و ترجاه بأن يعفيه ، فلم يقبل منه ، فظل ابن عمر يبحث
عن المعاذير ، و استعان عليه بأخته حفصة أم المؤمنين –رضي الله عنها- ثم
خرج ليلا إلى مكة فارا دون علم من علي ، فلما سمع بأمره سكن(2) .
و
آخرهم الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي سرح –رضي الله عنه- ، كان واليا
لعثمان بن عفان- رضي الله عنه- على مصر ، فلما سمع باستشهاده سنة 35ه اعتزل
الفتنة ،و التحق بفلسطين فرارا من منها - أي الفتنة- فبقي بها إلى أن
وافته المنية ، و هو في الصلاة ، سنة 36ه (3) .
و من مظاهر الاعتزال
الجماعي للفتنة ، أنه روي أن علي بن أبي طالب عندما ندب أهل المدينة
للخروج معه للقتال لم يوافقوه ،و أبوا الخروج معه ، فكلّم عبد الله بن عمر
شخصيا للخروج معه ، فقال له : أنا رجل من المدينة . ثم كرر عليهم دعوته
للسير معه عندما سمع بخروج أهل مكة إلى البصرة ، فتثاقل عنه أكثرهم ،و
استجاب له ما بين : 4-7 من البدريين(4) .
و أما الصحابة الذين
اعتزلوا الفتنة ،و كان لهم فيها نشاط بارز في دعوة الناس إلى اعتزالها ،
فأولهم أبو موسى الأشعري –رضي الله عنه – فكان يجمع الناس في الكوفة ،و
يحذرهم من المشاركة في الفتنة ،و يذكّرهم بما سمعه من رسول الله –صلى الله
عليه و سلم- في دعوته لاعتزال الفتن . فمن ذلك أنه كان يقول لهم : يا أيها
الناس إن هذه الفتنة ، فتنة باقرة كداء البطن ، لا ندري أنى تؤتى ، تأتيكم
من مأمنكم ،و تدع الحليم كأنه ابن أمس ، قطّعوا أرحامكم ، و انتصلوا
رماحكم(1) .
و عندما حل عمار بن ياسر –رضي الله عنه – بالكوفة و شرع في
استنفار الناس ليلتحقوا بجيش علي ، أنكر عليه أبو موسى الأشعري ، و أبو
مسعود البدري –رضي الله عنهما – فعله ، و قالا له : ما رأينا منك أمرا منذ
أسلمت أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر . فقال عمار : ما رأيت منكما منذ
أسلمتما أمرا أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر(1) .
و من الأحاديث
النبوية التي رواها أبو موسى الأشعري في صده للناس عن الفتنة ثلاثة أحاديث ،
أولها أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- قال عن أيام الفتنة : (( كسّروا
قسيّكم ،و قطّعوا أوتاركم ،و ألزموا أجواف البيوت ، و كونوا فيها كالخيّر
من بني آدم ))(1) . و ثانيها أن أبا موسى الأشعري خطب في الناس زمن الفتنة ،
فكان مما قاله لهم : (( قال رسول الله –صلى الله عليه و سلم- إن من بين
أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا ، و
يمسي مؤمنا و يصبح كافرا ، القاعد فيها خير من القائم ،و القائم فيها خير
من الماشي ، و الماشي فيها خير من الساعي ))(2) . و ثالثها قوله عليه
الصلاة و السلام : (( إذا التقى المسلمان بسيفهما ، فالقاتل و المقتول في
النار )) ، فقيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : (( إنه
كان حريصا على قتل أخيه ))(3) .
و رُوي أن عليا و أصحابه كانوا
منزعجين من نشاط أبي موسى الأشعري ، في دعوته للناس باعتزال الطائفتين
المؤمنتين المتقاتلتين ، لأن عمله هذا كان يصد الناس عن الالتحاق بهم . فمن
ذلك خبران ، أولهما ما رواه الطبري بقوله : حدثنا عمر بن شبّة ، حدثنا أبو
الحسن-المديني- حدثنا بشير بن عاصم عن ابن أبي ليلى ، عن أبيه أنه قال :
لما سمع علي بن أبي طالب بأن واليه على الكوفة أبا موسى الأشعري يدعوا
الناس إلى اعتزال الفتنة ، بعث إليه كتابا مع هاشم ابن عتبة ، يخبره فيه
أنه أرسل إليه هاشم بن عتبة ليحرّض أهل الكوفة على الالتحاق به ، ثم قال
لأبي موسى : (( فإني لم أولك الذي أنت فيه إلا لتكون من أعواني على الحق ))
، فلما وصل الكتاب إلى أبي موسى لم يستجب لعلي فيما أمره به من تجميع
الناس و الوقوف معه . فكتب هاشم بن عتبة إلى علي يقول له عن أبي موسى : ((
إني قد قدمت على رجل غال ظاهر الغل و الشنآن ))- أي البغض- فأرسل إليه علي
بن أبي طالب ، ابنه الحسن و عمار بن ياسر –رضي الله عنهم- ليستنفرا له
الناس ، و بعث قرظة بن كعب الأنصاري أميرا على الكوفة خلفا لأبي موسى و كتب
إليه يقول : (( إلى أبي موسى ، أما بعد فقد كنت أرى أن بعدك عن هذا الأمر ،
الذي لم يجعل لك منه نصيبا ، سيمنعك من رد أمري . . . فاعتزل عملنا مذموما
مدحورا ،و فإن لم تفعل فإني قد أمرته –أي قرظة بن كعب- أن ينابذك(1) ، فإن
نابذته فظفر بك أن يقطّعك آرابا )) ، فلما وصل الكتاب إلى أبي موسى اعتزل
الإمارة (2) . فهذه الرواية صريحة في أن أبا موسى الأشعري كان يعمل على عكس
سياسة علي بن أبي طالب ، مما جعله ينزعج منه و يذمه ،و يهدده باستخدام
القوة ضده ، إن هو لم يعتزل إمارة الكوفة . و أن أبا موسى قد أزعج عليا و
أصحابه عندما حث الناس على اعتزال الفتنة ،و عدم القتال مع أي طائفة من
الطائفتين المتنازعتين .
لكنني مع ذلك استبعد هذه الرواية ،و اعتقد أنها
غير صحيحة في كثير مما ذكرته ، و ذلك لأمرين ، أولهما أن في إسنادها : ابن
أبي ليلى عن أبيه ، و هو ليس بالقوي ،و مضطرب الحديث ،و لم يسمع من والده
شيئا ، لأنه لم يدركه ، فقد توفي والده و هو طفل صغير(1) . و هذا يعني أن
إسناد الرواية ضعيف ، فيه انقطاع و إرسال .
و الثاني أن متن الرواية
فيه ما ينكر و يستهجن و يستبعد ، فهي زعمت أن أبا موسى الأشعري –رضي الله
عنه- كان ظاهر الغل و البغض لعلي و أصحابه ، و هذا غير صحيح ، لأن أبا موسى
سبق و أن ذكرنا أنه لم يكن يذم أحدا من المسلمين ، و إنما كان يحذّرهم من
الفتنة ،و يثبّطهم عن المشاركة فيها شفقة عليهم .
كما أن في جواب علي
لأبي موسى –رضي الله عنهما- شدة و مبالغة في الذم و التهديد و التوعّد
بعزله و محاربته و تقطيعه إربا إربا إن هو أصر على بقائه أميرا على الكوفة .
و هذا التصرّف-في اعتقادي- لا مبرر له و بعيد أن يصدر عن صحابي جليل كعلي
بن أبي طالب ، تجاه صحابي جليل مسالم يدعوا إلى حقن دماء المسلمين .
و
الرواية الثانية هي الأخرى للطبري ،و فيها أن نصر بن مزاحم قال : حدثنا عمر
بن سعيد ، قال حدثني رجل عن نعيم ، عن أبي مريم الثقفي ، قال : عندما كان
عمار بن ياسر و أبو موسى الأشعري يتجادلان في مسجد الكوفة دخل غلمان لأبي
موسى المسجد و هم يصرخون ،و يقولون أن الأشتر النخعي(1) دخل قصر الإمارة و
ضربهم و أخرجهم ، فخرج أبو موسى من المسجد و دخل قصر الإمارة ، فصاح عليه
الأشتر قائلا : اخرج من قصرنا ، لا أم لك ، أخرج الله نفسك ، فو الله إنك
لمن المنافقين قديما )) ، فقال له أبو موسى : اجلني هذه العشية ، فقال : هي
لك ،و لا تبيتن في القصر الليلة . ثم دخل الناس القصر ينتهبون متاع أبي
موسى ، فمنعهم الأشتر و أخرجهم من القصر ،و قال : إني قد أخرجته ، فكف
الناس عنه (2) .
هذه الرواية هي الأخرى فيها تصوير ، لما كان يقوم به
أبو موسى الأشعري في التصدي للفتنة و دعوة الناس إلى اعتزالها ،و رد فعل
بعض أصحاب علي تجاه ما يقوم به ضد سياستهم ؛ لكنها –أي الرواية- لا تصح ،
لأن في إسنادها : نصر بن مزاحم ، وهو كذاب متروك ، واهي الحديث رافضي
جلد(3) . و في الإسناد – أيضا- مجهول ، قال عنه عمر بن سعيد : حدثني رجل عن
نعيم . فمن هو هذا الرجل ؟ فهو إذن مجهول العين و الحال .
و من نشاط
أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- في تسكين الفتنة بين الطائفتين المؤمنتين
المتقاتلتين ، إنه قبل أن يكون أحد الحكمين في قضية التحكيم بعد معركة صفين
، فمثّل أهل العراق في اجتماعه بممثل أهل الشام عمرو بن العاص –رضي الله
عنه- فقام الاثنان بدورهما كاملا ،و اتفقا على و ثيقة عمل لوضع حد
للفتنة(1) .
و أما الصحابي الثاني ، فهو عمران بن حصين –رضي الله
عنه- فقد اعتزل الفتنة و دعا الناس إلى اعتزالها ، و نهاهم عن بيع السلاح
فيها(1) .و قال ابن جرير الطبري : حدثنا عمرو بن علي- أبو حفص الصيرفي-
حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا أبو نعامة العدوي ، عن حجير بن الربيع(2) ، أنه
قال : قال لي عمران بن حصين ، سر إلى قومك و اجمع ما يكونون ، فقم فيهم
قائما ، فقل أرسلني إليكم عمران بن حصين صاحب رسول الله –صلى الله عليه و
سلم- يقرأ عليكم السلام ، ثم ادعوهم إلى اعتزال الفتنة ، و إن اعتزالها على
رأس جبل لرعي المعز ، هو أحب إلى عمران بن حصين، من أن يرمي بسهم واحد بين
الفريقين . فلما ذهب إلى قومه و أخبرهم بما قاله لهم عمران بن حصين لم
يسمعوا له ،و أصروا على الخوض في الفتنة و القتال فيها(3)
و الصحابي
الثالث هو أبو بكرة نفيع بن الحارث – رضي الله عنه – اعتزل الفتنة و لم
ينظم إلي أية طائفة (1) .و عندما التقى بالأحنف بن قيس حاملا سيفه ،و
متوجها إلى الالتحاق بجيش علي بن أبي طالب ، أوقفه و أقنعه بالعدول عن رأيه
، بعدما أخبره أن رسول الله –صلى الله عليه و سلم- قال : (( إذا تواجه
المسلمان بسيفهما ، فالقاتل و المقتول في النار ، فقيل : يا رسول الله ،
هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه )) و في رواية : ((
إنه كان حريصا على قتل صاحبه ))(2) .
و هو قد روي حديثا نبويا فيه أمر
باعتزال الفتنة ، و مفاده أن الرسول -عليه الصلاة و السلام – قال : ((
ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيرا من الجالس ،و الجالس خيرا من القائم ،و
القائم خيرا من الماشي ،و الماشي خيرا من الساعي ، )) فقال له أبو بكرة :
يا رسول الله ما تأمرني ؟ قال : (( من كانت له إبل فليلتحق بإبله ،و من
كانت له غنم فليلتحق بغنمه ،و من كانت له أرض فليلتحق بأرضه ،)) فقال له
أبو بكرة : فمن لم يكن له شيء من ذلك ؟ قال : (( فليعمد إلي سيفه فليضربه
بحده على حرة ، ثم لينجوا ما استطاع النجاء ))(3) .