كيمياء الحج (4)
ثالث عشر: من مقاصد الحج العامة
2- التربية:
يقول تعالى: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولي الألباب" (البقرة:196) .. "ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه" (الحج:28) :
أ- "فلا رفث" : يمنع في الحج منعاً جازماً حاسماً الاستجابة لشهوة الفرج، وكل ما يتصل بها، ويمهد لها، أو يحركها - من قول أو فعل أو إشارة- .
ب- "لا فسوق" : ويمنع في الحج ارتكاب أي مخالفة شرعية .. والمعاصي والمخالفات يعظم إثمها بعظم حرمة زمانها ومكانها، وبمقدار التشديد والتوكيد في النهي عنها.. وكل ذلك متحقق في الحج؛ إذ مخالفة الشرع منهي عنها نصاً خارج وقت الحج، ونصاً أيضاً في وقت الحج، إضافة إلى حرمة زمان الحج ومكانه.. ومن ثم، على الحاج أن يلتزم في أثناء مدة حجه بأعلى درجات الطاعة والانضباط.. وإذا كان الشرع قد كف الحاج عن عدد من المباحات، فكيف لا يكف الحاجٌ نفسه عما هو محرم ومنهي عنه من أصله.
ت- "لا جدال": الحاج في أمس الحاجة للصفاء ولاستغلال وقته والاستفادة منه.. والجدال - في أغلب الأحيان- مضيعة للوقت، ومٌذهب للصفاء، وسبب للمشاحنات، ومقدمة للخصومات والمنازعات.. ولذلك نهى الله عن الجدال في الحج.
ث- "ومن يعظم حرمات الله .." : إن الحاج ضيف من ضيوف الرحمن، بل هو نزيل بيت الضيافة الرباني.. ونحن إذا كنا ضيوفاً على غيرنا من الناس نكون على غاية ما يمكن من الأدب والهدوء والانضباط والالتزام واللياقة، فكيف بمن يكون في بيت الله وضيافته ؟ وكيف إذا كان المضيف في غاية الإكرام والتنعيم لضيفه ونزيل بيته ؟ إن الإساءة في مثل هذا المقام جريمة، بل وفضيحة تسير بها الركبان !
ج- "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" : على الحاج - وهو يستعد لسفره، ويتزود لرحلته- أن يتذكر أنه عما قريب سيفارق أهله وولده وبلده وماله إلى غير رجعة، وأن عليه أن يتزود أكثر وأكثر لسفره الأكبر، ورحلته الأخطر.. وليتعلم من رحلته إلى الحج - وتزوده لها، ومفارقته من يحب وما يحب- أنه لابد مرتحل ومفارق، وأن لكل ارتحال زاداً واستعداداً، وأن زاد الآخرة هو التقوى والعمل الصالح.. ومن أهم لوازم التقوى أن يبرئ المرء ذمته من المظالم وحقوق العباد؛ فيرد منها ما يمكن رده، ويستسمح من يمكن الاستسماح منه، ويستغفر الله ويتوب إليه مما لا يعلمه ولا يستطيع رده ولا التحلل منه؛ حتى لا يكون في سفره –الأصغر والأكبر- مثقلاً ومكبلاً بالمظالم وآثامها.
وبناءً على كل ما سبق، يجب على الحجاج أن يكونوا على درجة عالية من حسن الخلق،ومن الرفق واللين والتسامح .. وأن يعتبروا الحج فرصة نادرة لترويض النفس وتدريبها على التواضع والهدوء والخشوع والصفاء والبر والعفو والحلم.. إذ كل هذه أخلاق ضرورية كي يكون الحج مبروراً مقبولاً.
وبهذا يعود الحاج كيوم ولدته أمه.. ويعود وقد أصبح من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.. يعود وقد أصبح يدرأ بالحسنة السيئة، ويدفع بالتي هي أحسن.. يعود وقد ألزم نفسه بكف الأذى عن الناس، بل وبالتغاضي عن أذاهم، ومقابلته بالحلم والغفران..
أما أن يذهب على ما كان عليه من سوء الخلق وفظاظة الطبع وكثرة الجدال والخصام والأذى والفسوق، ثم يمكث هناك ويعود على ما كان عليه، فما استفاد من حجه، وما ضمنه حجاً مبروراً متقبلاً، بل "ما حج هو، وإنما حج الجمل" !!
.. أرأيت كيف هو الحج: (دورة تربوية تدريبية نادرة).. فإذا رأيتَ وعلمتَ، فالزم !!
3- الوحدة الإسلامية - تجسيداً واقعياً وتطبيقاً عملياً-:
الحج طريقة فذة لربط أمة الإسلام بمركز واحد، يديم لها رباط الدين، ويجدده فيها، ويوثق خيوطه، ويشدها بواسطته إلى ذكريات النور الذي انبثق في فجر رسالتها فهداها وأخرجها من الظلمات إلى النور..
وفي الحج تتجلى (الوحدة الكاملة للأمة الإسلامية) بكافة شعوبها وأعراقها وأقطارها: وحدة في المشاعر والشعائر، ووحدة في القول والفعل.. لا إقليمية ولا عنصرية ولا عصبية ولا طبقية، وإنما الجميع مسلمون، وبرب واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرأون، ولرسول واحد يتبعون، ولأعمال واحدة يؤدون، ولهدف واحد يبغون.
الحج فرصة لكل حاج كي (يجسد) الوحدة الإسلامية و(يستمتع) و(يعمق) شعوره بها -ولو لبضعة أيام أو أسابيع-.. فليوثقها بحسن التعارف والتآلف، وبالتعاون وحسن التعامل، وبتبادل الآراء والأخبار والمعلومات، مغلفاً ذلك كله بالمحبة والإخاء.