تفسير الأعراف ( 8 )
تفسير الأعراف ( 8 ) 75
– (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي اقرأ على اليهود يا محمّد أخبار الماضين التي
هي موجودة في توراتهم لكي يفكّروا ويعتبروا فلا يكونوا مثلهم ، ومن تلك
الأنباء (نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) أي أعطيناه حججنا
وبيّناتنا ، وهو بلعام بن بَعور1 وكان رجلاً عالماً عابداً مستجاب الدعوة
وكان في زمن موسى (فَانسَلَخَ مِنْهَا) أي فانتُزِعت منه تلك الآيات بسبب
رجوعه من الطاعة إلى المعصية (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) أي لحقه الشيطان
حتّى أغواه (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) بعد أن كان من العابدين المتّقين .
فلا تكونوا مثله أيّها اليهود فتغوون الناس وتصدّونهم عن الإيمان بنبيّ
يدعو إلى عبادة الله وحده وينهى عن عبادة الأوثان والأصنام .
---------------------------------------------
1 وكان في مدين جليه بالاق من آرام .
176 – (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) يعني لو نشاء لرفعناه أي
بلعام إلى السماء بعد موته ، يعني إلى الجنان بسبب تقواه وعبادته
(وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ) أي ركن (إِلَى الأَرْضِ) يعني اختار البقاء في
الأرض على الصعود إلى السماء واختار المال الفاني على النعيم الباقي
بمعصيته هذه (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) يعني واتّبع هوى نفسه فسوّلت له نفسه أن
يدعوَ على بني أسرائيل بالهلاك ، مع أنّهم لم يؤذوه ولم يحملوا عليه بكلام
رديء فكذلك أنتم أخذتم في إيذاء محمّد وعاديتموه مع أنّه لم يؤذكم بل
صدّق كتابكم وأيّد دينكم (فَمَثَلُهُ) أي فمثل بلعام في ذلك (كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) أي ينبح (أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَث) مثل (ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِآيَاتِنَا) فهم يؤذونك ويسبّونك ويستهزؤون بك وإن كنت لا تتعرّض لهم
بأذى وبذلك يهلكون أنفسهم حيث يرمونها في جهنّم (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في أمر بلعام ولا يكونوا مثله .
وإليك القصّة من التوراة نذكرها باختصار ، فقد جاء في سفر العدد في
الاصحاح الثاني والعشرين : لَمّا سار بنو إسرائيل قاصدي الأردن قام بالاق
بن صفور ملك موآب وجمع الشيوخ والرؤساء وقال لهم لقد قدم بنو إسرائيل إلى
ديارنا وإنّهم لا يبقون لنا طعاماً ولا شراباً لكثرتهم فنموت جوعاً فاذهبوا
إلى بلعام وكلّموه وائتوا به فليدعُ على بني إسرائيل ويلعنهم كي ننتصر
عليهم ويرجعوا عن بلادنا ، وبعث معهم هدايا له ، فساروا إلى بلعام وكلّموه
بذلك وقدّموا له الهدايا فقال لهم باتوا عندي الليلة حتّى أنظر في أمري ،
فأوحى الله تعالى إليه في المنام أن لا تفعل ذلك ولا تدعُ على بني إسرائيل
، ولَمّا أصبح الصباح قال لهم لا أذهب معكم لأنّ الله نهاني عن ذلك ،
فأخذوا يتوسّلون به ويتضرّعون إليه وقالوا له إمضِ معنا إلى الملك وهناك
إن شئت أن تدعوَ وإن شئت ترك الدعاء فالأمر لك .
فذهب معهم على بغلته وفي منتصف الطريق وقفت بغلته عن السير فضربها فلم
تسِر وزجرها فلم تزدد إلاّ رسوخاً في الأرض فنزل عنها وأخذ يضربها ضرباً
موجِعاً فنطقت بقدرة الله تعالى وقالت إنّ أمامي ملاكاً ينهاني عن السير
وأنت تأمرني بذلك ، فتركها وسار معهم حتّى وصلوا إلى الملك بالاق فاستقبله
الملك وأكرمه وطلب منه أن يدعوَ على بني إسرائيل ، فقال لا أفعل ذلك لأنّ
الله نهاني في المنام عن ذلك ، فقال الملك لعلّها رؤيا كاذبة وأخذ يتوسّل
إليه ويقدّم له الأموال والهدايا حتّى أغراه ، فصعدوا فوق الجبل وقدّموا
قرابين لله وأخذ بلعام يدعو ، فنطق بالدعاء وباللعن على قوم الملك لأنّه لم
يمتلك أمر لسانه ، فصاح الملك وضرب بيديه وقال ماذا تعمل وماذا تفعل ؟
لقد دعوت علينا ولعنتنا ، فقال بلعام : ألم أقل لك أنا لا أقدر أن أعمل
شيئاً بإرادتي فإنّ الله تعالى أخذ السلطة منّي على لساني فصار ينطق بغير
إرادتي ، فقال الملك وماذا نعمل الآن ؟ فقال بلعام لنذهب إلى الجبل الثاني
ونقدّم قرابين لله وأدعو مرّة ثانية ، ففعل ولكنّه لم ينجح أيضاً بل أخذ
لسانه يلعن قوم الملك ويدعو عليهم ، ويمدح بني إسرائيل ويباركهم فصاح
الملك ومزّق ثيابه ولطم وجهه وقال ماذا صنعت لقد أهلكتنا ولعنتنا . فقال
بلعام لنذهب إلى جبل ثالث ، فذهبوا ودعا على قوم الملك أيضاً .
فلمّا رأى بلعام أنّ خطّته هذه لم تنجح فكّر في خطّة أخرى وقال للملك
بالاق : إجمعوا كلّ امرأة حسناء منكم وليأخذن معهنّ أطباقاً من الفواكه
ويذهبن إلى بني إسرائيل ويبعن عليهم الفواكه فإذا أراد أحدهم أن يجامع
إحداهنّ فلا تمتنع عن ذلك فإذا زنى أحدهم فإنّ الله تعالى سينزل عليهم
الطاعون فيهلكهم . ففعلوا ذلك ونجحت خطّتهم ، وهذا معنى قوله تعالى
(فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) يعني بعد ما كان تقياً ينهى عن الفحشاء أصبح
عاصياً غاوياً يأمر بالفحشاء .