تفسير الأعراف ( 7 )
172 – (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) العهود والمواثيق (مِن بَنِي آدَمَ)
الماضين (مِن ظُهُورِهِمْ) أي من ظهرانيهم يعني من أسلاف اليهود الذين سبق
ذكرهم ، واليهود الموجودون هم (ذُرِّيَّتَهُمْ) أي هم من ذرّية الظهور
الماضين (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ) فقال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُواْ) أي قالت اليهود (بَلَى) أنت ربّنا ، قال الله تعالى أتشهدون أنّي
واحد لا شريك لي ؟ قالوا (شَهِدْنَا) قال الله تعالى (أَن تَقُولُواْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) يعني أن لا
تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا غافلين عن التوحيد فلم نعلم أن لا شريك لك
ولم يفهمنا أحد فإنّا أفهمناكم وعلّمناكم وأشهدناكم على أنفسكم .
173 – (أَوْ تَقُولُواْ) يوم القيامة (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن
قَبْلُ) أي من قبلنا (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ) يعني وكنّا
ذرّيتهم من بعدهم فتعلّمنا الإشراك منهم ، فإنّنا وصّينا آباءكم أن
يعلّموكم ويرشدوكم إلى التوحيد وإلى نبذ الأوثان والأصنام وتحطيمها أينما
وجِدَت ، فلا تقولوا : (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) من
آبائنا وأجدادنا ؟
والعهود التي أخذتها عليهم أنبياؤهم بأمر من الله وهي أن يعبدوا الله وحده
ولا يشرِكوا به شيئاً من المخلوقين والمخلوقات وأن يوصي الآباء أبناءهم
بذلك جيلاً بعد جيل لئلاّ ينسوا العهود والمواثيق فيعبدوا غير الله .
وإليك بعض العهود التي أخذها عليهم أنبياؤهم بذلك : فقد جاء في التوراة في
سفر التثنية في الاصحاح الخامس قال : [وَدَعَا مُوسَى جَمِيعَ
إِسْرَائِيل وَقَال لهُمْ: «اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ الفَرَائِضَ
وَالأَحْكَامَ التِي أَتَكَلمُ بِهَا فِي مَسَامِعِكُمُ اليَوْمَ
وَتَعَلمُوهَا وَاحْتَرِزُوا لِتَعْمَلُوهَا. اَلرَّبُّ إِلهُنَا قَطَعَ
مَعَنَا عَهْداً فِي حُورِيبَ. ليْسَ مَعَ آبَائِنَا قَطَعَ الرَّبُّ
هَذَا العَهْدَ بَل مَعَنَا نَحْنُ الذِينَ هُنَا اليَوْمَ جَمِيعُنَا
أَحْيَاءٌ. وَجْهاً لِوَجْهٍ .. فَقَال: أَنَا هُوَ الرَّبُّ إِلهُكَ
الذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ العُبُودِيَّةِ. لا
يَكُنْ لكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لا تَصْنَعْ لكَ تِمْثَالاً
مَنْحُوتاً صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي
الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ وَمَا فِي المَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لا
تَسْجُدْ لهُنَّ وَلا تَعْبُدْهُنَّ لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ
غَيُورٌ أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ وَفِي الجِيلِ
الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنَ الذِينَ يُبْغِضُونَنِي وَأَصْنَعُ
إِحْسَاناً إِلى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ. لا
تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً لأَنَّ الرَّبَّ لا يُبْرِئُ
مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً. ..أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ كَمَا
أَوْصَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَطُول أَيَّامُكَ وَلِيَكُونَ لكَ خَيْرٌ
على الأَرْضِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. لا تَقْتُل وَلا تَزْنِ
وَلا تَسْرِقْ وَلا تَشْهَدْ عَلى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ وَلا
تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلا بَيْتَه وَلا حَقْلهُ وَلا عَبْدَهُ
وَلا أَمَتَهُ وَلا ثَوْرَهُ وَلا حِمَارَهُ وَلا كُل مَا لِقَرِيبِكَ.]
آراء المفسّرين
لم يفهم المفسّرون تفسير هذه الآية ولم يعلموا مغزاها فظنّوا أنّ كلمة
(ظُهُورِهِمْ) معناه أصلابهم ، وكلمة (ذُرِّيَّتَهُمْ) معناها أرواحهم ،
وبذلك أخذوا يتخبّطون في تفسير هذه الآية خبط عشواء وإليك بعض تفاسيرهم
للآية لتحكم بين الخطأ والصواب .
لقد جاء في تفسير النسفي صحفة 94 من سورة الأعراف قال : " { وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } أي واذكروا إذ أخذ { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل
من { بَنِى ءادَمَ } والتقدير: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم {
ذُرّيَّتُهُم } ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم إخراجهم من أصلاب آبائهم {
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ
شَهِدْنَا } هذا من باب التمثيل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على
ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين
الهدى والضلالة، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟
وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك"
وجاء في تفسير الجلالين صفحة 141 قال : "{ وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى
ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } بدل اشتمال مما قبله بإِعادة الجار
{ذُرِّيّتِهِمْ } بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم، نسلاً بعد نسل،
كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان يوم عرفة ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب
فيهم عقلاً {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } قال { أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } أنت ربنا { شَهِدْنَا } بذلك والإِشهاد لـ {
أن } لا { يَقُولُواْ } بالياء والتاء في الموضعين، أي الكفار { يَوْمَ
ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا } التوحيد { غَٰفِلِينَ } لا
نعرفه."
وجاء في تفسير الطبرسي المجلّد الرابع صفحة 497 قال : "{ وإذ أخذ ربك } أي
واذكر لهم يا محمد إذ أخرج ربك: { من بني آدم من ظهورهم } أي من ظهور بني
آدم: { ذريتهم وأَشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } إختلف العلماء
من العام والخاص في معنى هذه الآية وفي هذا الإخراج والإشهاد على وجوه:
أحدها: أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذر فعرضهم على آدم
وقال: إني آخذ على ذريتك ميثاقهم أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئاً وعليَّ
أرزاقهم ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أنك ربنا فقال للملائكة:
أشهدوا فقالوا شهدنا. وقيل: إن الله تعالى جعلهم فهماء عقلاء يسمعون خطابه
ويفهمونه ثم ردَّهم إلى صلب آدم والناس محبوسون بأجمعهم حتى يخرج كل من
أخرجه الله في ذلك الوقت وكل من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى ومن
كفر وجحد فقد تغير عن الفطرة الأولى عن جماعة من المفسرين ورووا في ذلك
آثاراً بعضها مرفوعة وبعضها موقوفة ويجعلونها تأويلاً للآية وردَّ المحققون
هذا التأويل وقالوا: إنه مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه لأنه تعالى قال
{وإذ أخذ ربك من بني آدم} ولم يقل من آدم وقال {من ظهورهم} ولم يقل من
ظهره وقال {ذريتهم} ولم يقل ذريته. ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا
يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم وأنهم نشؤوا على
دينهم وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول الظاهر ولد آدم
لصلبه وأيضاً فإن هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم لا يخلو إما إن جعلهم
الله عقلاء أو لم يجعلهم كذلك فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا
التوحيد وأن يفهموا خطاب الله تعالى وإن جعلهم عقلاء وأخذ عليهم الميثاق
فيجب أن يتذكروا ذلك ولا ينسوه لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ
عليه إلا أن يكون ذاكراً له فيجب أن نذكر نحن الميثاق ولأنه لا يجوز أن
ينسى الجمع الكثير والجم الغفير من العقلاء شيئاً كانوا عرفوه وميَّزوه
حتى لا يذكره واحد منهم وإن طال العهد ألا ترى أن أهل الآخرة يعرفون
كثيراً من أحوال الدنيا حتى يقول أهل الجنة لأهل النار أن قد وجدنا ما
وعدنا ربنا حقاً.
وثانيها: أن المراد بالآية أن الله سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم
إلى أرحام أمهاتهم ثم رقاهم درجة بعد درجة وعلقة ثم مضغه ثم أنشأ كلاً منهم
بشراً سوياً ثم حيّاً مكلفاً وأراهم آثار صنعه ومكَّنهم من معرفة دلائله
حتى كأنه أشهدهم وقال لهم ألست بربكم فقالوا بلى هذا يكون معنى أشهدهم على
أنفسهم دلَّهم بخلقه على توحيده وإنما أشهدهم على أنفسهم بذلك لما جعل في
عقولـهم من الأدلة الدالة على وحدانيته وركب فيهم من عجائب خلقه وغرائب
صنعته وفي غيرهم فكأنه سبحانه بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم .
وثالثها: أنه تعالى إنما عنى بذلك جماعة من ذرية آدم خلقهم وأكمل عقولـهم
وقرَّرهم على ألسن رسله (ع) بمعرفته وبما يجب من طاعته فأقرّوا بذلك
وأشهدهم على أنفسهم به لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ."
إنتهى .