تفسير سورة النساء ( 23 )
154 – (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ) أي بنقضهم ميثاقهم
، وذلك لَمّا ذهب موسى إلى جبل الطور ليأتي بالتوراة وكان معه جماعة من
قومه قال لهم قفوا هنا في أسفل الجبل وأنا أصعد وآتيكم بالتوراة ، فلَمّا
رجع إليهم وفي يده لوحان من حجر مكتوب فيهما التوراة قال هؤلاء الذين بقوا
في انتظاره من يصدّق أنّ هذه التوراة من عند الله . وكانوا قد أعطوه
العهود والمواثيق بأن يقبلوها منه ويعملوا بِها ، فلمّا قالوا هذا الكلام
انشقّ الجبل الذي كانوا قاعدين تحته ومالت الشقّة عليهم وكادت تقع عليهم
فتهلكهم فخافوا وصاحوا آمنّا وصدّقنا , فاستقرّت الشقّة في مكانها ولم تقع
عليهم , وقد جاء ذكرها في سورة الأعراف أيضاً وذلك قوله تعالى {وَإِذ
نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ
وَاقِعٌ بِهِمْ} .
ثمّ ذكر سبحانه جهلهم وعنادهم في حادثة أخرى فقال (وَقُلْنَا لَهُمُ
ادْخُلُواْ الْبَابَ) أي باب المدينة وهي أريحا (سُجَّدًا) أي مطيعين
منقادين ، ولكنّهم لم يدخلوها بل عصوا وعاندوا وقالوا لِموسى إذهب أنت
وربّك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون . ثمّ ذكر سبحانه عصيانهم في أمرٍ آخر
فقال (وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ) أي لا تعتدوا الأوامر
التي أوصاكم الله بِها ونهاكم عنها ، ولكنّهم اعتدَوا وخالَفوا أوامره
فأخذوا يبيعون ويشترون ويصيدون السمك في السبت (وَأَخَذْنَا مِنْهُم
مِّيثَاقًا غَلِيظًا) على أن يطيعوا الله ولا يعصوه ويعبدوه ولا يشركوا به
أحداً ولكنّهم خانوا العهود ونقضوا المواثيق وعبدوا البعليم وعشتاروث
وعصوا أمر ربّهم ، فهذه هي أعمالهم وهذه هي مخازيهم فلا تلتفت إلى قولهم
يا محمّد حيث طلبوا منك المستحيل ولا يهمّك شأنهم .
155 – (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) أي فبنقضهم ميثاقهم و "ما" للكثرة
والتنوّع نحو قولك "نوعاً ما" أي نوع من الأنواع ، وذلك كقوله تعالى في
سورة البقرة {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} ، أي
مثلاً من الأمثال . و"ب" سببية متعلّقة بمحذوف وتقديره : لعنّاهم بسبب
نقضهم كثرة المواثيق وأنواع العهود1 التي أخذناها عليهم (وَكُفْرِهِم
بَآيَاتِ اللّهِ) التي جاء بها المسيح والتي جاء بِها محمّد (وَقَتْلِهِمُ
الأَنْبِيَاء) كزكريا ويحيى وغيرهما (بِغَيْرِ حَقًّ) يعني بغير خطيئة
استوجبوا بِها القتل (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ) أي عليها غلاف لا
تعي كلامك يا محمّد (بَلْ طَبَعَ) أي ختم (اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)
فلا تعي وعظاً (فَلاَ يُؤْمِنُونَ) بك يا محمّد (إِلاَّ قَلِيلاً) منهم
كعبد الله بن سلام وأصحابه .
------------------------------------------------
1 [لا يخلو سفر من أسفار التوراة من تكرار العهد عليهم بالتوحيد والعبادة
الخالصة لله وترك الأصنام وعبادة الأوثان . –
المراجع ]
156 – (وَبِكُفْرِهِمْ) ثانيةً بعيسى (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ
بُهْتَانًا عَظِيمًا) حيث رمَوها بالزنا (وَقَوْلِهِمْ) مفتخرين (إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ) استهزاءً منهم
بكلمة "رسول الله" ثمّ بيّن سبحانه أنّهم لم يقتلوه ولم يصلبوه في
الحقيقة ولكن جعل الله واحداً شبيهاً له فأخذوه وصلبوه وذلك قوله تعالى
(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ) أي في عيسى حيث صلبوا غيره (لَفِي شَكٍّ
مِّنْهُ) أي في شكٍّ من صلبه لأنّهم رأوا عيسى حياً بعد ثلاثة أيام (مَا
لَهُم بِهِ) أي بقتله (مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ) أي يتّبعون
فيه الظنّ الذي تخيّلوه (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) لكنّهم قتلوا غيره
(بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ) بعد موته أي رفع روحه إلى السماء بعد
الحادثة بزمن ، وذلك أنّه أفلت منهم فذهب إلى ربوة فبقي فيها يتعبّد لله
ولحقته أمّه وبعد زمن مات بأجله فدفِن جسمه في تلك الربوة وصعدت روحه إلى
السماء ، والدليل على ذلك قول الله تعالى في سورة المؤمنون {وَجَعَلْنَا
ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ
قَرَارٍ وَمَعِينٍ } ، (وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا) في ملكه (حَكِيمًا) في
صنعه ، وقد سبقت قصّة المسيح في سورة آل عمران2.
-------------------------------------------