الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس ، ومعنى عدم دخولنا الجنة بأعمالنا قرأت العديد من الآيات في القرآن ، وفي الحديث ،
أن الله رحيم لدرجة أن رحمته تشمل كل شيء ، ويحب أن يغفر لعباده في أي وقت
، إذا تابوا ، لكنَّ شيئاً جعلني أتساءل : ما دام أن الله رحيم : فلماذا
لم يغفر خطأ الشيطان ، وقد كان من عباد الله ولم يرتكب الشرك ؟ وكما قال
الله في القرآن : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
) ، فهذا يجعلني أخاف حيث إنه لم يغفر للشيطان بسبب خطئه الوحيد ، فكيف
يمكن أن يغفر لنا أخطاءنا الكثيرة ؟ وكذلك أن كل واحد سيدخل الجنة ليس
بعمله الصالح وإنما برحمة الله ، هذا يجعلني أبكي ، هل سيغفر الله لي
ذنوبي ويريني رحمته ، ويسمح لي بدخول الجنة ، فإنه رحيم بعباده بحق . أرجو
التوضيح ، وإزالة شكوكي ، وأكون ممتناً لكم .
الجواب:
الحمد لله
أولاً:
هذا من أغرب الأسئلة التي وصلت لموقعنا ، ولعلَّ حداثة سنِّك
– أخي السائل - هي السبب ، ونحن نشعر من رسالتك أن عندك خيراً عظيماً ،
وقلباً رقيقاً ، وإحساساً مرهفاً ، ونشد على يديك لتبقى على هذا الخير ،
والصدق ، والحرص على ما ينفعك .
والجواب على سؤالك وإشكالك سهل ويسير ، وهو أن إبليس لم يتب
أصلاً ، ولم يستغفر ربَّه تعالى ، ولم يطلب منه الصفح والعفو ، فكيف سيغفر
الله تعالى له وهو يصر على كبره ، وغروره ، ويعصي أمر ربه تعالى المباشر
له ؟! .
وليس لك أن تقارن ذلك بمغفرة الله تعالى لآدم عليه السلام ؛
ذلك لأن آدم عليه السلام استغفر ربَّه من أكل الشجرة ، وندم على ما حصل
منه من معصية ربه عز وجل ، قال تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
البقرة/ 37 .
وقال تعالى – عن آدم وحواء - : ( قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ ) الأعراف/ 23 .
وقارن هذا بتكبر إبليس وغروره بعد الأمر المباشر من رب العالمين :
قال تعالى : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ ) البقرة/ 34.
وانظر ماذا قال بعد علمه بسخط الله تعالى عليه لمخالفته أمره :
قال تعالى – عنه - : ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ )
الحِجر/ 39 .
وقال تعالى : ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ
لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ
وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) الأعراف/ 16 ، 17 .
فانظر لهذا العدو الخبيث كيف يصف ربه بأنه أغواه ، وأضلَّه !
– حاشا لله - ، وكيف أنه طلب طول العمر لا لكي يراجع نفسه ويتوب ، بل ليضل
من يستطيع إضلاله من الناس ؛ لئلا يكونوا مهتدين .
قال الطبري – رحمه الله - :
وأما قوله : ( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) فإنه يقول :
لأجلسنَّ لبني آدم ( صراطك المستقيم ) ، يعني : طريقك القويم ، وذلك دين
الله الحق ، وهو الإسلام ، وشرائعه ، وإنما معنى الكلام : لأصدَّن بني آدم
عن عبادتك ، وطاعتك ، ولأغوينهم كما أغويتني ، ولأضلنهم كما أضللتني .
" تفسير الطبري " ( 12 / 334 ) .
وبه يتبين لك أخي السائل :
1. أن آدم عليه السلام كانت معصيته بفعل المحظور ، وكانت معصية إبليس ترك المأمور ، وبينهما فرق شاسع ، من أوضحه :
2. أن سبب معصية آدم الشهوة ، وسبب معصية إبليس الكِبر والغرور ، وبينهما فرق عظيم ، وقد بان ذلك في نتائجهما :
3. فآدم عليه السلام تاب ، واعترف أنه ظلم نفسه ، وإبليس أبى ، واستكبر ، وتوعَّد الناس أن يُضلَّهم ، ويغويهم .
قال ابن القيم - رحمه الله - :
هذه مسألة عظيمة لها شأن ، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله
من ارتكاب المناهي ، وذلك من وجوه عديدة : ... ( وذكر ثلاثاً وعشرين وجهاً
) .
" الفوائد " ( ص 125 – 135 ) .
والله تعالى يقبل توبة التائب حتى لو كان أشرك معه سبحانه
إلهاً آخر ، بل ويبدِّل سيئاته حسنات ، كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
يَلْقَ أَثَاماً . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً
صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) الفرقان/ 68 – 70 .
فلا تقلق أخي السائل ، فرحمة الله واسعة ، والله تعالى يتقبل
توبة التائب ، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء ، قال تعالى : ( قُلْ يَا
عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الزمر/ 53 .
ولو أن إبليس اعترف بذنبه ، وتاب لربه تعالى : فلن يجد باباً
مغلقاً ، وهو أعلم بربه من غيره ، ولم يكن ثمة ما يدعوه للعناد إلا كبره ،
وغروره ، ورضي أن يكون قائد أهل النار من أجل هذا .
ثانياً:
أما دخول الجنة برحمة الله تعالى : فهو حق لا ريب فيه ،
وإنما لا يدخل أحدٌ الجنة بعمله : لأنه ليس ثمة عمل يقوم به العبد – ولو
عظُم – يبلغ أن يكون ثمناً لدخوله الجنة ، فسلعة الله غالية .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ ) قَالَ
رَجُلٌ : وَلاَ إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( وَلاَ إِيَّايَ
إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ ، وَلَكِنْ
سَدِّدُوا ) .
رواه البخاري ( 6098 ) ومسلم ( 2816 ) .
لكنْ للعمل فائدتان مهمتان :
الأولى : أنه يحصِّل به الرحمة التي تكون سبباً لدخول الجنة .
والثانية : أن المنازل تتفاوت في الجنة بحسب الأعمال .
قال ابن بطال – رحمه الله - :
فإن قال قائل : فإن قوله صلى الله عليه وسلم : ( لن يدخل
أحدكم عمله الجنة ) يعارض قوله تعالى : ( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) الزخرف/ 72 ، قيل : ليس كما
توهمتَ ، ومعنى الحديث غير معنى الآية ، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث أنه لا يستحق أحد دخول الجنة بعمله ، وإنما يدخلها العباد برحمة
الله ، وأخبر الله تعالى في الآية أن الجنة تُنال المنازل فيها بالأعمال ،
ومعلوم أن درجات العباد فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم ، فمعنى الآية
في ارتفاع الدرجات وانخفاضها والنعيم فيها ، ومعنى الحديث في الدخول في
الجنة والخلود فيها ، فلا تعارض بين شيءٍ من ذلك .
" شرح صحيح البخاري " ( 10 / 180 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وكذلك أمر الآخرة ، ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة ،
بل هي سبب ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إنه لن يدخل أحدكم
الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني
الله برحمة منه وفضل ) ، وقد قال تعالى : ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون
) ، فهذه باء السبب ، أي : بسبب أعمالكم ، والذي نفاه النبي صلى الله عليه
وسلم : باء المقابلة ، كما يقال : اشتريت هذا بهذا ، أي : ليس العمل عوضاً
وثمناً كافياً في دخول الجنة ، بل لا بد من عفو الله ، وفضله ، ورحمته ،
فبعفوه : يمحو السيئات ، وبرحمته : يأتي بالخيرات ، وبفضله : يضاعف
البركات .
" مجموع الفتاوى " ( 8 / 70 ، 71 ) .
فلعلك علمتَ الآن أن هذا الحديث لا يدعو للقلق ، ولا لليأس ،
بل هو يدفع نحو العمل ؛ لأنه بالعمل تحصِّل رحمة الله ، وبالعمل ترتفع
درجاتك في الجنان .
والله أعلم