خذ وتعال ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون﴾ (المائدة: 90-91)، فدُعي عمر، فقُرئت عليه، فقال: (انتهينا انتهينا). ()
تقول أم المؤمنين عائشة: (إنما نزل أول ما نزل منه [أي من القرآن] سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام؛ نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً).()
لهذا ولغيره يدعو المستشرق الشهير جوزيف شاخت المحاضر في الدراسات الإسلامية في جامعتي أكسفورد وليدن في كتابه "تراث الإسلام" إلى دراسة الشريعة الإسلامية، فيقول: "من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضّر قانونه الديني الذي يسمى (بالشريعة)، والشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون إلى حدّ أن دراستها أمر لا غنى عنه؛ لكي نقدر المدى الكامل للأمور القانونية تقديراً كافياً .. إن الشريعة الإسلامية شيء فريد في بابه، وهي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية.."()
ثانياً : مقاصد الشريعة الإسلامية
وتهدف الشرائع الإسلامية في جملتها إلى تحقيق ما يصلح أحوال الإنسان في الدنيا ويسعده في الآخرة، وفق قاعدة درء المفاسد عنه وجلب المصالح له، فما تأمر الشريعة بأمر إلا وفيه خير للإنسان، وما حرم فيها من شيء إلا وفيه ضرر عليه ﴿ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾ (البقرة: 222).
والشريعة جاءت تفصيلاتها لحفظ مقاصد خمسة (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وهي في حقيقتها أهم حقوق الإنسان ومصالحه في هذه الحياة:
أ. حفظ الدين
لما كان الدين المقوِّم الأعظم الذي يهيمن على مجالات الحياة الإنسانية كان من الطبيعي أن تسعى شرائع الإسلام إلى حفظه ، باعتباره حقاً للإنسان، بل هو أغلى الحقوق وأهمها، وذلك بتشريع كل ما يساعد على حفظه والنهي عن كل ما يضر به ويضعفه أو يقضي عليه.
فقد حث القرآن على عبادات كثيرة تثبت الإيمان وتحرسه في صدور المؤمنين، بعضها ذهني فكري كالتفكر والتدبر في خلق الله للاستدلال على عظمة الخالق، وبعضها ذهني بدني كالصلاة، أو بدني الصيام، أو مالي كالزكاة والصدقة، أو ذهني مالي بدني كالحج.
ولحراسة الإيمان والدين حرَّم الله الشرك اعتقاداً وعملاً ، كما حرَّم ما يفضي إليه كالغلو بالأنبياء والصالحين، واعتقاد وجود وسطاء بين الله وعبيده، واعتقاد النفع والضر لغير الله.
كما أوجب الله على المجتمع والدولة حماية الدين وتسهيل سبل التدين والتشجيع عليه، وكذلك فإن من الواجب عليها الذود عنه ومنع سبل الغواية والإغراء بالفسق والعصيان والكفر، بالأخذ على يد المضلين المفسدين، وتطبيق العقوبات الشرعية على المرتدين.
ب. حفظ النفس الإنسانية
الحياة الإنسانية هبة الله للإنسان، وليس لأحد أن يعتدي على هذا الحق، ولا الإنسان نفسُه، فالله خلق الإنسان وكرمه، ليحقق واجب الاستخلاف في الأرض وعمارتها، وليبتليه ويظهر مدى تحقيقه العبودية لله رب العالمين.
ولأجل ذلك صان الإسلام الوجود الإنساني بما شرعه من شرائع تكفله وتحفظه، فأوجب على المجتمع رعاية الضعيف وتأمين ضرورياته من سكن وطعام وشراب ولباس، وغيرها من ضروريات الحياة، وشرع في تأمين ذلك الزكوات الواجبة والصدقات المندوبة التي تندرج ضمن منظومة واسعة من شرائع التعاون على البر والتقوى بين أفراد المجتمع ومؤسساته، بغية تحقيق التكافل الاجتماعي داخل المجتمع.
وكفل الإسلام الحياة الكريمة للإنسان، فحرم إهانته وإيذاءه ﴿والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً﴾ (الأحزاب: 58).
واعتبر الإسلام الاعتداء على النفس الإنسانية من أقبح الجرائم، وعدَّه من الموبقات السبع التي تفسد الدين والدنيا، فقد قال r محذراً منها: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).()
ولعظم الاعتداء على النفس الإنسانية جعل الله الاعتداء على نفس واحدة بمثابة الاعتداء على الجنس البشري برمَّته ﴿من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون﴾ (المائدة: 32).
وتوالت الآيات تصف المؤمنين بأنهم يجتنبون قتل الأبرياء الذين يسميهم القرآن بـ (النفس التي حرم الله): ﴿والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً﴾ (الفرقان: 68).
تتهدد الآيات من يعتدي على الأبرياء، وتعطي لولي المظلوم حق المطالبة بالقصاص العادل من خصمه ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً﴾ (الإسراء: 33).
وسلطان القصاص العادل هو أحد أهم الضمانات التي تمنع تفشي الجريمة، فيرعوي المجرم عن عتوه؛ ليقينه بأن اعتداءه بالقتل على الآخرين مستوجب إزهاق نفسه، فيأمن الجميع ويستمتع الجميع بحقهم في الحياة ﴿ ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلكم تتقون ﴾ (البقرة: 179).
وصوناً لهذا المبدأ العظيم (حفظ النفس) شرع القرآن الجهاد في سبيل حماية المستضعفين من الاضطهاد والقتل، فقال تعالى: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ^ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً﴾ (النساء: 75-76).
ولن يفوتنا -أن نذكر هنا -أن أول نفس حرم الله الاعتداء عليها نفس الإنسان التي هي وديعة عنده، وتفريطه فيها بالانتحار أو التساهل في صونها يعرضه لأليم العذاب في الآخرة، فقد قال r: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سُمَّاً فقَتل نفسه؛ فسُمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يديه يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).()
ج. حفظ العقل
العقل أهم خصائص الإنسان التي بموجبها فضّل الله الجنس الإنساني على سائر المخلوقات ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً﴾ (الإسراء: 70).
ويعتبر الإسلام العقل مناط التكليف في سائر المسؤوليات الدينية والدنيوية، إذ به يهتدي الإنسان إلى الحقائق الكبرى التي دعا الله إلى الوصول إليها بالبراهين العقلية، لا بمجرد الإيمان الأعمى : ﴿أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾ (الأنبياء: 24)، فالعقل يرشد كل من تدبر في الكون المنظور إلى وجود الله وصفاته ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾ (آل عمران: 190).
ولا يجوز للمرء تغييب العقل عن أداء واجبه في الدلالة على الحق والخير وتبصير الإنسان فيما يصلح له دنياه وأخراه، ولأجل ذلك حرم الله السحر والشعوذة والكهانة وغيرها مما يتلاعب بالعقل ويزدريه ويعطل طاقاته، ولأجل ذلك أيضاً حرم الإسلام الخمر، واعتبرها دنساً شيطانياً وكيداً منه للإنسان، يريد به إفساد علاقة الإنسان بربه بشغله بالخمر عن الصلاة والعبادة، كما يصبو بواسطتها إلى تدمير العلاقات الاجتماعية ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون﴾ (المائدة: 90-91).
د. حفظ النسل
التناسل وسيلة بقاء النوع الإنساني ، ولأجله ركَّب الله الغريزة في الجنسين، ودعاهما إلى إقامة الأسرة عن طريق الزواج الذي يعتبره الإسلام المحضن الذي يحقق حفظ النسل، ويديم المسيرة الإنسانية السوية.
وقد رغَّب الإسلام في النكاح، ووضع ضوابطه ومتطلباته عبر نظام اجتماعي محكم ينظم العلاقة بين الزوجين خصوصاً، وأبناء الأسرة عموماً.
ويُلزم الإسلام الأبوين بجملة من الواجبات تجاه أبنائهما، منها حسن تربيتهم وتعهدهم بالحنو والرعاية والإنفاق وغيرها من مقتضيات الأبوة والأمومة السليمة.
وحرم الإسلام أشد التحريم الاعتداء على الطفل بوأده أو إجهاضه ﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خِطئاً كبيراً﴾ (الإسراء: 31).
وصوناً للأسرة ورعاية لأفرادها حرَّم الله الزنا والفواحش عموماً ﴿ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً﴾ (الإسراء: 32)، وحرم أيضاً ما يؤدي إلى هذه الفواحش من اختلاط الرجال بالنساء، كما ألزم المرأة بالحجاب حال بروزها أمام الأجانب درءاً للفتنة، فالمرأة في الإسلام جوهرة مصونة عن العبث والابتذال ﴿يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً﴾ (الأحزاب: 59).
هـ. حفظ المال
المال قوام الحياة، والإسلام يعتبر ما يتداوله الناس مالَ الله الذي استخلف عليه الإنسان، وشرع له تكسبه وحيازته من الطرق المشروعة ، كما أمره أن ينفقه ضمن حاجاته وحاجات مجتمعه من غير إسراف ولا تقتير.
وقد حث الإسلام على العمل والإنتاج واكتساب المال بالطرق المشروعة ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور﴾ (الملك: 15)، ورغب r بالعمل واعتبره من القربات إلى الله، فقال: ((ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة)).()
ولما مر رجل على النبي r ؛ رأى أصحاب رسول الله r من جَلَده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله: لو كان هذا في سبيل الله؟، فقال رسول الله r: ((إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)).()
لكن الكسب نوعان: طيب وخبيث، فالطيب هو الرزق الذي يكتسبه المرء بوسائل الكسب المشروعة كالتجارة والصناعة والزراعة والوظائف العامة والخاصة ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون﴾ (البقرة: 172).
وأما الخبيث من الكسب فهو حيازة المال بالطرائق الملتوية كالربا والرشوة والغش والغبن والحيلة أو المتاجرة بالسلع الضارة للإنسانية ﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون﴾ (البقرة: 188).
وللإسلام قاعدة جامعة في هذا الشأن ﴿ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث﴾ (الأعراف: 157)، فكل كسب للمال لا يؤذي صاحبه ولا الآخرين فهو حلال طيب، وكل ما عداه حرام خبيث.
وكذا يوجه الإسلام إلى المصارف الصحيحة للمال، فامتلاك الإنسان للمال لا يسوغ له إنفاقه كيفما اتفق، فالإسراف والتبذير في إنفاق المال، والتقصير في إخراج حقوق الفقراء عمل شيطاني بغيض ﴿وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً ^ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً﴾ (الإسراء: 26-27)، وقال r: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال))()، فهذا المال عطية الله، وقد استخلفنا عليه لننفقه في الأوجه المشروعة، وأعظمها الصدقة على الفقراء والمساكين ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ (النور: 33)، ﴿وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجرٌ كبيرٌ[ (الحديد: 7).
وهكذا فهذه الضرورات الخمس التي تمثل أهم حقوق الإنسان في الحياة تدور على حفظها سائر تشريعات الإسلام، فمن التزمها أكرمه الله بالسعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، ومن تنكبها شقي في الدنيا بمقدار ما أعرض عن هدي الله وناموسه العادل والكامل ﴿فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ^ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ^ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ^ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾ (طه: 123-126).
أركان الإيمان
الإيمان هو المرتبة التي يسمو إليها المسلم بعد إسلامه، فيرنو إلى الارتقاء بإسلامه إلى مرتبة الإيمان، فلا يقف في دينه عند عتبة العبادات الظاهرة، بل يترقى في كمالات الإيمان بمقدار ما يتمثل في سلوكه من شُعَبِه التي تشمل الاعتقاد والعبادة والأخلاق، قال r: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). ()
وأما أركان الإيمان فهي ستة يوضحها حديث جبريل حين سأل النبي r عن الإيمان فأجاب النبي r: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).()
وهكذا فأول الإيمان أن ينعقد قلب المسلم على التصديق بهذه المسائل الست، ثم يبرهن بعمله على صحة إيمانه بها، فالإيمان اعتقاد وقول وعمل، ويزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
ولما كنا قد تحدثنا عن الأولى منها، وهي الإيمان بالله، نشرع بذكر بقية الأركان.
الإيمان بالملائكة
الملائكة مخلوقات نورانية فريدة، خلقها الله من نور، فقد قال r: ((خلقت الملائكة من نور))()، وهم جند الله الذين لا يعرف عددهم إلا هو ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر﴾ (المدثر: 31).
وبسبب طبيعتهم النورانية اللطيفة فإن الملائكة يقدرون على التشكل في هيئة أجسام كثيفة، كصورة البشر، فقد ظهرت الملائكة بصورة بشرية لإبراهيم ثم لوط ، وكذا ظهر الملاك جبريل لمريم عليها السلام على صورة رجل: ﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً ^ قالت إني أعوذ بالرحمـن منك إن كنت تقياً ^ قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً﴾ (مريم: 17-19).
وهذه الصورة البشرية في الظهور الملائكي يأنس لها قلب الإنسان، لذا كثيراً ما نزل بها جبريل على النبي r ، فقد سأل الحارث بن هشام رسول الله r: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله r: ((أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملَك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول)).()
والملائكة عباد لله مكرمون مفطورون على عبادة الله بلا كلل ولا فتور، فهم ﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ (الأنبياء: 20)، وكذلك فإنهم لا يسأمون من عبادة الله ﴿يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسـئمون﴾ (فصلت: 38).
لقد استحقوا وصف الله لهم بالكرام البررة (عبس: 16)، فهم ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ (التحريم: 6).
وللملائكة أفعال تختص بالإنسان، منها مرافقة الإنسان في حياته وتسجيل أعماله، والشهادة عليه بما صنعه يوم القيامة ﴿وإن عليكم لحـافظين ^ كراماً كـاتبين ^ يعلمون ما تفعلون﴾ (الانفطار: 10-12)، فالملائكة تسجل عليه سائر أقواله وأفعاله: ﴿إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ^ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾ (سورة ق: 17-18)، ومعرفة المؤمن بمعية الملائكة له أدعى في الحياء منهم أن يسجلوا عليه سيئة وهم الأبرار الذين لا يفترون من عبادة الله.
والملائكة جند الله المنفذون لأوامره وحكمه في أعدائه، فينزلون العقوبة بالمجرمين المستحقين لعذاب الله، كما أرسلهم الله لعذاب قوم هود وقوم صالح وقوم لوط.
ومن وظائف الملائكة قبض الأرواح التي ختم الله آجالها ﴿وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظةً حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون﴾ (الأنعام: 61)، ﴿قل يتوفـاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم ثم إلى ربكم ترجعون﴾ (السجدة: 11).
والملائكة يحبون ما أحبه الله، فيحبون المؤمنين والاتقياء من عباد الله، ويستغفرون لهم، قال الله تعالى: ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كـل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم﴾ (غافر: 7).
وقال r: ((فإذا صلى [أي المؤمن] لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه)).()
ويتواصل استغفار الملائكة ليشمل جميع المؤمنين كما قال الله: ﴿ والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم﴾ (الشورى: 5).
وأما من كفر وعصى فالملائكة تدعو عليه باللعنة ﴿إن الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾ (البقرة: 161).
فإذا قامت القيامة استقبلت الملائكة المؤمنين في الجنات، وساقت المجرمين والكافرين إلى الدركات، فعن استقبالهم للمؤمنين وتهنئتهم إياهم يقول الله تعالى: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ ^ سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾ (الرعد: 23-24)، وأما الكافرون فتعذبهم الملائكة في نار ﴿وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ (التحريم:6).
الإيمان بالكتب
ولما كانت وظيفة الرسل حمل الهداية الإلهية إلى البشرية فقد أنزل الله عليهم هديه ووحيه، ليستنقذ به البشرية من ضلالها وتيهها ﴿كان الناس أمةً واحدةً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتـاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ (البقرة: 213).
وهذه الكتب الإلهية تحمل رسالة الله إلى الإنسان، وتبعاً لذلك فهي تتصف بصفات منزلها، فهي الهدى والنور، وقد وصف الله توراته التي أنزلها على موسى بقوله: ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور﴾ (المائدة: 44)، ومثله قال في وصف الإنجيل الذي أنزله على عيسى عليه السلام: ﴿وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظةً للمتقين﴾ (المائدة: 46)، وهكذا فالهدى والنور صفة لازمة لكل وحي يوحيه الله إلى نبي من أنبيائه.
والمسلم يؤمن بكل وحي لله امتثالاً لأمر الله وتصديقاً لكلامه: ﴿يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتـاب الذي نزل على رسوله والكتـاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً﴾ (النساء: 136)، فالكفر بأحد كتب الله هو كفر بها جميعاً.
ويأمر الله نبيه r والمؤمنين به، فيقول: ﴿قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾ (البقرة: 136). (وانظر آل عمران: 84).
وقد أمر الله جل وعلا الأمم السابقة بحفظ ما أنزل الله إليهم من كتاب، كما قال سبحانه: ﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء﴾ (المائدة: 44)، فأضاعها الأولون، ولم يكونوا أمناء عليها، فصارت نهبة للتحريف والتبديل ، فتعرضت للزيادة، حين أضيف إليها ما لم ينزله الله ﴿وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتـاب لتحسبوه من الكتـاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون﴾ (آل عمران: 78).
وقد توعد الله بعذابه الذين فعلوا ذلك: ﴿فويل للذين يكتبون الكتـاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون﴾ (البقرة: 79).
كما تعرضت هذه الكتب للنقصان والضياع المتعمد الذي توعد الله أيضاً فاعله بأليم العذاب فقال: ﴿إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتـاب ويشترون به ثمناَ قليلاً أولـئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيـامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم﴾ (البقرة: 174).
ومما ضاع من الكتب السابقة؛ الإنجيل() الذي أنزله الله على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ﴿ومن الذين قالوا إنا نصـارى أخذنا ميثـاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به﴾ (المائدة: 14).
ولتبيان الحقيقة الضائعة من الكتب السابقة أو المطموسة بالتحريف والتبديل فيها؛ أرسل الله محمداً برسالته الخاتمة، وأعطاه القرآن الذي جعله أيضاً نوراً وهدى ورحمة للناس جميعاً، فدعاهم الله إلى الإيمان به ﴿يـا أهل الكتـاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتـاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتـاب مبين﴾ (المائدة: 15).
وبهذا أصبح القرآن خاتمة وحي الله المصدق لما سبقه والمهيمن عليه بما خصه الله من الحفظ والبيان قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الكتـاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتـاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهـاجاً﴾ (المائدة: 48).
وتكاملت نعمة الله على عباده بهذا الكتاب الذي سماه الله القرآن العظيم، وبالرسول الذي يبلغ إلى العالمين، فلله في ذلك المِنَّة البالغة ﴿لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آيـاته ويزكيهم ويعلمهم الكتـاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (آل عمران: 164).
وحتى تبقى كلمة الله شاهدة على خلقه جيلاً فجيل؛ تكفل الله جل وعلا بحفظ كتابه الأخير ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحـافظون﴾ (الحجر: 9)، وقال لنبيه r: ﴿إن علينا جمعه وقرآنه ^ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ^ ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة: 17-19)، وهكذا أضحى القرآنُ الكتابَ الإلهي الوحيد المحفوظ بحفظ الله له ﴿وإنه لكتابٌ عزيزٌ ^ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ﴾ (فصلت: 41-42).
وحتى يحفظ الله كتابه يسَّره للحفظ، وأنزله في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وإنما تعتمد الحفظ وسيلة للمحافظة على تراثها وتاريخها وأشعارها وأنسابها ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ (القمر: 17)، وأنزله منجماً مفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة، ليسهل حفظه ومدارسته على النبي r وأصحابه.
وقد حفظ النبي r القرآن، وتعهده الله بمدارسته مع جبريل عليه السلام من كل عام في شهر رمضان، يقول ابن عباس: (كان رسول الله r أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة). ()
ويخبرنا القرآن عن حرص النبي r على حفظ النص القرآني، فقد كان يردده حال سماعه له من جبريل عليه السلام، خشية أن ينسى بعضاً منه ، فطمأن الله روعه، وأعلمه أن القرآن محفوظ بحفظ الله: ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً﴾ (طه: 114)، وقال له: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به ^ إن علينا جمعه وقرآنه﴾ (القيامة: 16-17).
وقد حرص النبي r على تعليم أصحابه القرآن، وكانوا يتعاهدون به من أسلم حديثاً، فيبادرون إلى تعليمه ما نزل من القرآن، يقول عبادة بن الصامت: (كان رسول الله يُشغَل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله r دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن).()
وكان الصحابة يتابعون باهتمام بالغ يومياً ما ينزل من القرآن، يقول عمر بن الخطاب t : كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد -وهي من عوالي المدينة -وكنا نتناوبُ النزولَ على رسول الله r ينزل يوماً، وأنزل يوماً ، فإذا نزلتُ جئتهُ بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعلَ مثل ذلك.()
وحث النبي r أصحابه على تعلم القرآن، فقال مستحثاً لهممهم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))()، وأخبرهم أنه ((يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ، ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه)) ()، فقراءة القرآن وحفظه من أفضل العبادات، و((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه ، وهو عليه شاق؛ له أجران)).()
وقد سارع الصحابة إلى حفظ سور القرآن ومدارستها وتعلم ما فيها من معان وأحكام، فكان منهم مئات القراء، وقد أتم بعضهم حفظ كامل القرآن في عهد النبي r، فقد سأل قتادة خادمَ النبي r أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي r؟ فقال أنس: (أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد). ()
وممن حفظه من نساء الصحابة أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري، فأمرها النبي r أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، فكانت تؤم أهل دارها. ()
وقد نقل القرآن الكريم بحفظ الجموع عن الجموع في كل عصر، وكان القرآن كما وصفه الله لرسوله، حين قال له في الحديث القدسي الذي يرويه النبي عن ربه تبارك وتعالى: ((ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان)).()
يقول ابن الجزري: "الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة .. فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في صفة أمته: ((أناجيلهم في صدورهم))".()
وحتى نقف على كثرة هؤلاء القراء من الصحابة يكفينا أن نذكر أنه قد قتل منهم في يوم بئر معونة سبعون، يقول أنس: (جاء ناس إلى النبي r فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون .. فبعثهم النبي إليهم، فعرضوا لهم، فقتلوهم).()
وبعد وفاة النبي r قتل في وقعة اليمامة الكثير من القراء، حتى خشي عمر من ضياع شيء من القرآن، فقال لخليفة المسلمين أبي بكر: (إن القتل قد استحر [أي كثُر] يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن).() فكان هذا سبباً في مبادرة الصحابة إلى جمع القرآن في مصحف واحد مكتوب في عهد الخليفة أبي بكر الصديق.
وجمع القرآن في عهد الصديق إنما كان جمعاً للمكتوب بين يدي النبي r الذي حرص على جمع القرآن في عهده ليتكامل حفظ السطور إلى حفظ الصدور.
يقول عثمان بن عفان: إن النبي r كان إذا نزلت عليه الآيات يدعو بعض من كان يكتب له، ويقول له: ((ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)).()
وكان الصحابة يكتبون كل ما نزل، بل ويسارعون إليه مهما كثر، ومثاله مسارعتهم إلى كتابة سورة الأنعام، وهي من أطول سور القرآن، نزلت دفعة واحدة في مكة زمن الاضطهاد، يقول ابن عباس t: ((نزلت جملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات؛ فإنها نزلت في المدينة)).()
وقد أولى النبي r المكتوب بين يديه اهتماماً بالغاً، إذ كان يستوثق من دقة المكتوب بين يديه، يقول زيد بن ثابت كاتب الوحي: كنتُ أكتب الوحي عند رسول الله r وهو يملي عليَّ، فإذا فرغت، قال: ((اقرأه))، فأقرأُه، فإن كان فيه سقط أقامه. ()
وخوفاً من تداخل المكتوب من القرآن مع غيره من كلام النبي r أمر أصحابه، فقال: ((لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه)).()
ثم لحق النبي r بالرفيق الأعلى قبل أن يجمع هذا المكتوب بين يديه في مصحف واحد، يقول كاتب الوحي زيد بن ثابت: (قبض النبي r، ولم يكن القرآن جمع في شيء). ()
قال الخطابي: "إنما لم يجمع r القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته؛ ألهمَ الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر". ()
وبعد وفاة النبي r بدأت حروب المرتدين، وكان أشدها معركة اليمامة التي قتل فيها قرابة الألف من أصحاب النبي r، وبينهم كثير من القراء.
فجاء عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبي بكر الصديق، يقترح جمع القرآن في مصحف واحد، خشية ضياعه بوفاة المزيد من القراء، ووافق الخليفة على المقترح ، وانتدب لجنة لذلك العمل العظيم برئاسة كاتب الوحي وحافظه الشاب زيد بن ثابت، الذي يروي لنا الخبر بتمامه فيقول: (أرسل إلي أبو بكر مقتلَ أهل اليمامة وعنده عمر، فقال: أبو بكر إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر.
فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله ، فتتبع القرآن فاجمعه.
قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر.
فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم﴾ (التوبة: 128) إلى آخرهما.
وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر).()
وتبين لنا رواية أخرى المنهج الذي اتبعه زيد في جمعه، إذ لم يعتمد على محفوظاته ومحفوظات الصحابة، بل بحث عن المكتوب بين يدي النبي r ، والموثق بشهادة شاهدين يشهدان بكتابته بين يدي النبي r، يقول يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: (قام عمر بن الخطاب في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان).()
قال أبو شامة المقدسي: (وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كُتب بين يدي النبي، لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة: (لم أجدها مع غيره) أي لم أجدها مكتوبة مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة).()
وهكذا أكملت اللجنة عملها بجمع ما كتب بين يدي النبي r موثقاً بشهادة شاهدين على الأقل، يشهدان أنه كتب بين يدي النبي r.
وفي عهد عثمان t أمر الخليفة بتكوين لجنة تعيد نسخ المجموع في عهد أبي بكر، كان عمادها أربعة من حفاظ القرآن ()، وبدأت اللجنة بنسخ مصحف أبي بكر وكتابته وفق لسان قريش، يقول حذيفة: (فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف؛ ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان.
فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم).()
وفي رواية الترمذي أن الكتبة اختلفوا في كيفية كتابة كلمة واحدة، يقول حذيفة: (فاختلفوا في "التابوت" و" التابوة " ، فقال القرشيون بالأول، وقال زيد بالثاني ، فرفعوا اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه بالتابوت، فإنه نزل بلسان قريش). ()
وتكامل الجمع العثماني بكتابة سبع نسخ من المصحف، أرسل كل واحد منها إلى قطر من أقطار المسلمين، ليكون إماماً للناس، يضبطون وفقه مصاحفهم، وأمر عثمان من كان عنده شيء من صحف القرآن أن يحرقها، يقول حذيفة: (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق).()
والسبب الذي دعا الخليفة إلى طلب إحراق الناس لما بين أيديهم من الصحف والمصاحف أن بعضها قد كتب قبل العرضة الأخيرة للوحي في السنة الأخيرة من حياة النبي r، ففيها ما نسخت تلاوته، كما يمكن أن يقع في مصاحف الصحابة الخاصة نقص آية أو كلمة أو زيادة ناسخ لشرح كلمة وسواها، فيخشى أن يظن من يأتي بعد ناسخها أنه من القرآن، كما كانت مصاحف الصحابة مختلفة في ترتيب سورها، فمصحف علي t مثلاً كان ترتيبه بحسب النزول، فلهذه الأسباب أمر عثمان بإحراق المصاحف.
وقد فعل الصحابة ذلك وامتثلوا أمر الخليفة ، واتفقوا على صحة صنيعه، يقول علي t: (يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعاً .. والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل). ()
ويقول مصعب بن سعد t: (أدركت الناس حين شقق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعب ذلك أحد).()
وامتثال الصحابة وفعلهم؛ إقرار لعثمان على صحة ما فعله، لأن ما فعله عثمان هو إعادة نسخ مصحف أبي بكر وفق حرف قريش ولسانهم، ولو كان في فعله شائبة لثاروا عليه، كما ثار عليه من ثار لأمور أقل منها كتوليته بعض أقاربه على بعض مدائن المسلمين.
ومن المعلوم أن عثمان لم يأمر عماله بمتابعة الناس في بيوتهم ومعرفة من أحرق من المسلمين مصحفه ومن لم يحرق، فقد فعل المسلمون ذلك بمحض إرادتهم واختيارهم.
وهكذا وُثِق النص القرآني كتابة، فاجتمع إلى توثيقه بحفظ الحفاظ من أصحاب النبي r ، وتناقلت الأمة في أجيالها نص القرآن الكريم، يحفظه في كل عصر الألوف المؤلفة منهم، فوصل إلينا القرآن الكريم محفوظاً من أي تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقصان.
الإيمان بالأنبياء
ولكي تبلغ رسالة الله إلى العالمين اصطفى الله خيرة من خلقه، فجعلهم رسلاً له، أولاهم تعريف الناس بدينهم وإبلاغهم ما يريد ربهم منهم، فمن أطاعهم وآمن بهم بشروه بالسعادة والرضوان، ومن عصاهم أنذروه غضب الملك الديان ﴿رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً﴾ (النساء: 165).
فبهؤلاء الرسل قامت حجته تبارك وتعالى على خلقه: ((وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل)).()
والرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله كُثُر، فما من أمة إلا وأرسل الله فيها رسولاً يقيم حجته عليها ﴿وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ﴾ (فاطر: 24).
وقد ذكر القرآن والسنة أسماء بعضهم ، وهم : آدم ونوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وإدريس وذو الكفل وداود وسليمان وأيوب ويوسف ويونس وموسى وهارون ويوشع وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
لكن ثمة كثيرين غيرهم لم يذكرهم القرآن، كما قال تعالى: ﴿ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك﴾ (النساء: 164).
وجميع الأنبياء من البشر، وهم لا يتميزون عن غيرهم إلا بما خصهم الله من النبوة وأنوارها وعبقها ﴿وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ^ وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين﴾ (الأنبياء: 7-8)، فكلهم يجري عليه ما يجري على البشر من عوارض جسدية كالطعام والشراب والمرض، ومن أقدار علوية كالبلاء والموت.
وهم لا يملكون من القدرة أكثر مما أمكنهم الله منه ﴿قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشرٌ مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطانٍ إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ (إبراهيم: 11).
وقد أيد الله هؤلاء الأنبياء بالدلائل التي برهنت لأقوامهم على صدقهم في دعوى النبوة والرسالة، قال r: ((ما من الأنبياء من نبي، إلا قد أُعطي من الآيات، ما مثلٌه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحياً أَوحى اللهُ إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة)). ()
ولما كان الرسول على قدر مرسِله؛ فإن الله اصطفى هؤلاء الأنبياء من بين سائر خلقه، يكونوا رسله وسفراءه إلى خلقه، فهم خيرتهم خُلقاً، بل وخَلقاً.
ومن صفاتهم عليهم السلام تحملهم المشاق والبلاء في سبيل إقامة دينه ﴿الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً﴾ (الأحزاب: 39)، وهم في بلاغهم لرسالة الله لا يطلبون الأجر من الناس، فقد قال نوح عليه السلام: ﴿ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله﴾ (هود: 29)، وقد أمر الله نبيه r أن يقول للناس ما قاله إخوانه الأنبياء: ﴿قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً﴾ (الفرقان: 57).
ولما تمثل بهؤلاء الأنبياء من الكمالات؛ فإن الله أمر نبيه محمداً والمؤمنين من بعده بالتأسي بهم، فقال بعد أن عدَّد أسماء ثمانية عشر رسولاً: ﴿أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ^ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ (الأنعام: 88-89)، فتمثل النبي r هديهم، ومشى على غرزهم، فرفع الله قدره، وأعلى ذكره، وجعله أسوة حسنة للعالمين ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾ (الأحزاب: 21).
وقد كانت دعوة هؤلاء جميعاً واحدة في أصولها، وهي الدعوة إلى عبادة الله الواحد دون سواه ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون﴾ (الأنبياء: 25)، كما أن أصول شرائعهم وجوهرها واحد ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ (الشورى: 13).
وعليه فالمسلم يؤمن بجميع الأنبياء بلا تفريق بينهم ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ (البقرة: 285).
والكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل وبمن أرسلهم وبالرسالة الواحدة التي يحملونها ﴿إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً ^ أولـئك هم الكـافرون حقاً﴾ (النساء: 150- 151).
أما طرائق الوحي التي يوحي الله بها إلى هؤلاء الأنبياء، فتتلخص في ثلاثة طرق: الأول: خطاب الله المباشر، كما كلم الله موسى في الوادي المقدس، والثاني: الوحي الذي يقذفه الله في قلب النبي، والثالث: ما يحمله ملاك الله إلى النبي من وحي الله، سواء ظهر له على شكل بشري إيناساً له أو على صورته الحقيقية، قال تعالى: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ (الشورى: 51).
وجميع هؤلاء الرسل من أهل الفضل والكمال، لكنهم متفاوتون في أقدارهم عند الله ﴿تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس﴾ (البقرة: 253).
وأفضلهم أولو العزم، وهم خمسة ذكرهم الله بقوله: ﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم﴾ (الأحزاب: 7)، وقد أمر الله نبيه بالصبر على الدعوة ومشاقها اقتداء بمن سبقه من أولي العزم من الرسل ﴿فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل﴾ (الأحقاف: 35).
وأفضل هؤلاء الأنبياء عند الله خاتمهم الذي ارتضاه الله للبشرية كلها نبياً ورسولاً، محمد بن عبد الله الذي قال مخبراً عن منزلته عند ربه: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة))، وفي رواية: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر)). () أي لا أفخر على أحد بذلك، إنما أبلغ بما خصني الله من الشرف والمنـزلة.
ولكي لا توهم المفاضلة بين الأنبياء نقصاً في المفضول؛ فإن النبي r نهى عنها، فقال لمن قال بأنه خير من موسى: ((لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله)).()
الإيمان بالقضاء والقدر
وسادس أركان الإيمان هو الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن كل ما يجري في هذه الدنيا من خير أو شر إنما يجري بقضاء الله الذي لا راد له ولا مانع منه، فقد كتبه الله قبل أن يخلق الخلق بدهر طويل.
وتتضمن عقيدة المسلم في القضاء والقدر ثلاث مسائل:
الأولى: أن الله عز وجل عليم بكل شيء، وأن كل ما يحصل منا من خير أو شر قد علمه الله أزلاً، وهو مصداق قوله تعالى: ﴿الله الذي خلق سبع سمـاوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً﴾ (الطلاق: 12).
الثانية: أن الله كتب ما علمه، قال الله تعالى: ﴿ألم تعلم أن لله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتـاب إن ذلك على الله يسير﴾ (الحج: 70)، وقال: ﴿وكل شيء أحصيناه في إمام مبين﴾ (يس : 12)، وما كتبه الله إنما كتبه قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، قال r : ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)).()وقال أيضاً : ((وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض)).()
الثالثة: أن ما كتبه الله في كتابه كائن لا محالة، ولا يمكن لأحد أن يغيره ﴿وكان أمر الله قدراً مقدوراً﴾ (الأحزاب : 38)، وما يقع من الناس من شر وخير إنما يجري بعلم الله ومشيئته الأزلية ﴿وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين﴾ (التكوير: 29).
لكن الفعل الإنساني لا يصدر من الإنسان جبراً وقهراً، فالإنسان أكرم مخلوقات الله، كرّمه الله ، فمنحه القدرة على التمييز ﴿ ألم نجعل له عينين ^ ولساناً وشفتين ^ وهديناه النجدين ﴾ (البلد: 8-10)، ثم دعاه تبارك وتعالى لاختيار الحق وهجر الباطل، من غير إكراه منه على ذلك.
فإذا ما اختار الإنسان خير النجدين، فسلك سبيل الهداية؛ زاده الله من أنوار الهدى ﴿والذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم ﴾ (محمد: 17)، وإن تنكبها واختار الضلالة والعماية زاده الله ضلالاً، كما وصف الله تعالى المنافقين : ﴿ في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون ﴾ (البقرة: 10).
وهكذا فالإنسان يختار فعله وفق اختياره وإرادته، لذلك نسب الله فعله إليه بقوله: ﴿وما تفعلوا من خيرٍ فإن الله به عليمٌ ﴾ (البقرة: 215)، لكن اختياره وفعله ليس جبراً لله أو قهراً، بل هو بقدرة الله الخالق الذي أقدره على ذلك ﴿ والله خلقكم وما تعملون﴾ (الصافات: 96).
ويشمل الإيمان بالقضاء والقدر، التصديق بجملة من القضايا التي قدرها الله بسابق علمه.
أولها: ما يصيب الإنسان من خير وشر، يقول النبي r: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه))()، وبذلك يتعلق قلب العبد بربه مسبب الأسباب، لا بالأسباب المنظورة التي جعلها الله طريقاً لتحقيق قدره المكتوب، وهذا يُحل بالمؤمن راحة النفس وطمأنينة القلب عند نزول البلاء، ومحبة المنعم ورجاء المزيد من نواله عند الرخاء ﴿ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسيرٌ ^ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ﴾ (الحديد: 22-23).
ومنها أيضاً: تقدير أرزاق الخلق ، فكل ذلك مسطور في علم الله أزلاً، يقول الله تعالى عما يقدره من أرزاق للناس: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾ (الحجر: 21).
وبسبب هذا الإيمان فإن المؤمن أشجع الناس بما أوتي من يقين بالله الذي هو وحده يملك أرزاق الناس وآجالهم، ﴿قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ (التوبة: 51)، وهو يعلم أيضاً ((أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعتِ الأقلام وجفَّت الصحف)).()
وبسبب إيمان المسلم بأن الرزق مقسوم من الله بسابق قضائه، فإنه لا يطلب الدنيا بنَهَم عُبَّاد المال الذين لا يعرفون في الكسب حلالاً ولا حراماً، إنما يطلبه بوجوهه المشروعة، يقول r: ((لا تستبطئوا الرزق ، فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له ، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال ، وترك الحرام))()، وفي حديث آخر يقول r: ((وإن الروح الأمين قد نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)). ()
وكذلك فإن الله قدر آجال الناس وأعمارهم في سابق علمه ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى﴾ (الزمر: 42).
وإيمان المسلم بذلك يعرف الإنسان بقْدره الضعيف، وينبؤه عن ضعفه الكبير، وعن عظيم حاجته إلى ربه، قال r: ((لو أن الله سبحانه عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم، ولو كان لك مثل جبل أحد ذهباً أنفقته في سبيل الله تعالى ما قبله منك؛ حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك؛ وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار)).() فيستقبل المؤمن بالقضاء والقدر مصائب الدنيا بالبشر، ويراها منحة حملتها إليه محنة ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن ، إن أصابته