السمااااااااااحةة حين تجد امرءًا سهلاً ميسرًا ، يتنازل عن حظ نفسه أو جزء من حقه ، ليحلّ
مشكلة هو طرف فيها ، أو ليطوي صفحة طال الحديث فيها ، أو ليتألف قلبـًا
يدعوه ، أو ليستطيب نفس أخيه ، وهو قبل ذلك لا يتعدى على حق أخيه، ولا يلحف
في المطالبة بحقوقه ، فذلك هو الرجل السمح ، وتلك هي السماحة.
وقد
دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة للرجل السمح : ((رحم الله
رجلاً سمحـًا إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى))(رواه البخاري)، وفي
رواية (وإذا قضى ) . وما هي إلا صور من المعاملات اليومية ، التي تقتضي
قدرًا كبيرًا من السماحة .
ويعلق ابن حجر على رواية البخاري بقوله : "
السهولة والسماحة متقاربان في المعنى .. والمراد بالسماحة ترك المضجرة
ونحوها ، وإذا اقتضى : أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف ، وإذا قضى : أي
أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل ، وفيه الحض على السماحة في المعاملة ،
واستعمال معالي الأخلاق ، وترك المشاحنة ، والحض على ترك التضييق على الناس
في المطالبة ، وأخذ العفو منهم ".
وأكثر ما تكون الخصومات في المعاملات
المالية ، والمناظرات الخلافية ، والملاسنات الكلامية ، وقلّ أن يسلم فيها
من لم يتحلّ بكرم الخلق ، وجود النفس ، وسماحة الطبع .
من صور السماحة :
1- التنازل عن الحق :
إن
صاحب السماحة لا تطيب نفسه بأن يحصّل حقـًا لم تطب به نفسه الطرف الآخر ،
فيؤثر التنازل أو السماحة ، ,إن كان الحق له ، وهذا ما كان من عثمان - رضي
الله عنها - حين اشترى من رجل أرضـًا ، فتأخر صاحب الأرض في القدوم عليه
لقبض الثمن ، وتبين له أن سبب تأخره أنه بعد أن تم العقد شعر البائع أنه
مغبون ، وكان الناس يلومونه كيف تبيعها بهذا الثمن ؟ قال عثمان : " فاختر
بين أرضك ومالك " ثم ذكر له الحديث : ((أدخل الله عز وجل الجنة رجلاً ، كان
سهلاً مشتريـًا وبائعـًا ، وقاضيـًا ومقتضيًا))(رواه أحمد) .
2- إنظار المعسر :
إن
إنظار المعسر ، أو التجاوز عن القرض أو عن جزء منه ، صورة عظمية من صور
الكرم وسماحة النفس ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((كان تاجر
يداين الناس ، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه ؛ لعل الله أن
يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه))(رواه البخاري) .
بل إن توفيق الدنيا والآخرة مرهون بتيسيرك على أخيك المعسر : ((من يسّر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة))(رواه مسلم) .
3- رد القرض بأحسن منه :
وقد
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم يردّ القرض بخير منه وبالزيادة فيه ،
ويقول : ((أعطه ، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء))(رواه ابن ماجه).
وما ترك صاحب القرض يمضي إلا وهو راضٍ .
4- السماحة مع الشريك :
كما
شهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شريكه في التجارة قبل البعثة :
(السائب بن عبد الله ) بقوله له : " كنت شريكي في الجاهلية ، فكنت خير شريك
، كنت لا تداريني ولا تماريني "(رواه ابن ماجة) .
أي كنت لا تدافعني في
أمر ولا تجادلني ، بل كنت شريكـًا موافقـًا ، ولم ينسها له ، وكانت سببـًا
من أسباب محبته له ، وتكون سببـًا من أسباب النجاة من النار لمن تخلَّق
بها ((حرم على النار كل هيِّن ليِّن سهل ، قريب من الناس))(رواه أحمد) .
5- رفع الحرج عن الناس :
صاحب
السماحة لا يحرص على إيقاع الناس في الحرج ، ولا يشغله التفكير بما له عن
التفكير بما عليه من سماحة مع إخوانه وتقدير لظروفهم ، وفي الحديث الصحيح :
" أن الصحابي أبا اليسر - رضي الله عنه - كان له على رجل قرض ، فلما ذهب
لاستيفاء حقه اختبأ الغريم في داره ؛ لئلا يلقى أبا اليسر ، وهو لا يملك
السداد ، فلما علم أبو اليسر أن صاحبه يتخفى منه حياء لعدم تمكنه من أداء
ما عليه ، أتى بصحيفة القرض فمحاها ، وقال : " إن وجدت قضاء فاقض، وإلا
فأنت في حلّ "(رواه مسلم) . وبسماحته تلك أخرج أخاه من الحرج الشديد .
6- السماحة مع من أساء :
وأبرز
مواقف السماحة ما يكون مع من أساء إليك ، كالذي جرى مع أبي بكر - رضي الله
عنه - حين أقسم ألاَّ ينفق على مسطح بن أثاثة ؛ لتورطه في حديث الإفك ،
فأمره الله تعالى أن يعفو ويصفح ، فكفر عن يمينه ، وعاد ينفق عليه ، وفي
ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - : ((ارحموا تُرحموا ، واغفروا يغفر
لكم))(صحيح الجامع) . وقد وصف الله عباده المؤمنين بأنهم : ( وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(الشورى/37) .
7- السماحة بين تهمة العجز أو الفجور :
وقد
يوسوس الشيطان للمسلم : إنك لو تسامحت وصفك الناس بالعجز ، وظنوا فيك
الضعف ، ولأَنَ تُؤْثِرَ أن يقال فيك ما يقال خير لك من الوقوع في الفجور ،
بحيث يخشى الناس شرّك ، وقد ورج في الحديث : ((يأتي عليكم زمان يُخيَّر
فيه الرجل بين العجز والفجور ، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على
الفجور))(رواه أحمد) .
ولابد من الإشارة إلى أن السماحة هنا مع أصحاب
الفلتات من المسلمين، أما الذين يظلمون الناس ، ويصرون على ذلك ،
فيُعامَلون بخلق (الانتصار) .
صور تتنافى مع السماحة :
1- كثرة
الخصومات : وإن مما يتنافى مع السماحة الانزلاق إلى اللدد والخصومة ، إذ
كما يحب الله السماحة فإن ((أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم))(رواه
البخاري) . قال في الفتح : " الألدّ : الكذاب ، وكأنه أراد أن من يكثر
المخاصمة ، يقع في الكذب كثيرًا " .
وحين يفتقد المرء السماحة تجده
ينحدر في أخلاقه ، إلى أن ينجرف إلى التصايح والجدل لأمر يعلم بطلانه ، أو
وقوفـًا على طرف لا يدري مدى أحقيته ! ((… ومن خاصم في باطل - وهو يعلمه -
لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه …))(رواه أبي داود) . وقد قيل في المثل :
ما استرسل كريم قط .
2- كثرة الجدل : إن خلق السماحة يقتضي من صاحبه
المبادرة إلى التنازل عند الوقوع في أي موقف جدلي ، ولنتذكر دائمـًا أن
العلم بميقات ليلة القدر خير كبير حرمت منه الأمة ؛ بسبب انعدام روح
السماحة بين رجلين من الأمة : ((خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان
وفلان فرُفعت))(رواه البخاري). وكم تُحرم الأمة من البركات والنعم والنصر
حين تدب الخصومات ، بل إن صفة أساسية من أخلاقيات المنافق أنه : ((وإذا
خاصم فجر)(رواه البخاري) .
ولا يليق بالرجل السمح أن يتعنت ويجادل ويشد
ويصيح ، ناهيك عن أن يفجر في الخصومة ((والجور : الميل عن الحق والاحتيال
في رده))(فتح الباري) .
وإنه مما يتنافى مع روح السماحة أن يقع
الإخوة في جدالات تافهة لأمور سياسية ، أو قضايا فكرية ، أو توقعات غيبية ،
ثم تجدهم ينفضّون متباغضين ، وما كانت البداية إلا روح الجدل و((ما ضل قوم
بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل))(رواه ابن ماجه) .
ولحث المسلمين
على السماحة في الحوار ، والتنازل عند الاختلاف ، وعدم الوقوع في مغبة
الجدل ، تعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيت في الجنة لمن تنازل :
((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقـًا))(رواه أبي
داود) . ولا يمكن أن يكون سماحة وتنازلاً إلاَّ حين يكوم محقـًا ، وإنه
لعسير ، وإن أجره لكبير .
3- كثرة اللغو : ومن نتائج انعدام روح السماحة
أن تغدر أمتنا تتبارى بألسنتها ، فتنقلب إلى أمة كلام بدل أن تكون أمة عمل
، وتضيع الأوقات في الشد والجذب والأخذ والرد ، وكل يناصر رأيه ، إن مما
حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته ((منعـًا وهات)) ، ومما كره
لهم : ((قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال))(رواه البخاري) .
مواقف تقتضي السماحة :
1-
السماحة في الجهاد : ولا يكمل أجر المجاهد إلا بالسهولة والسماحة ((الغزو
غزوان : فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام ، وأنفق الكيمة ، وياسر
الشريك ، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله))(رواه أبي داود ، وهو
حسن) . قال الباجي في (ياسر الشريك) : يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة ،
ومتابعته عليه وقلة مشاحّته فيما يشاركه فيه ؛ من نفقة أو عمل .
فلنوفر أوقاتنا ، ولنحفظ أخوتنا ؛ بتعميم روح السماحة فيما بيننا ، وبالنزول عند رغبة إخواننا إيثارًا لما هو أغلى .
2-
السماحة مع الزوج : تظهر آثار (السماحة) في جميع مظاهر حياة صاحبها ،
فانظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع زوجه (عائشة) - رضي الله
عنها - حين قصدت الحج والعمرة ، فأصابها الحيض ، فحزنت لعدم تمكنها من أداء
العمرة ، وبكت لذلك وقالت : " يرجع الناس بحجة وعمرة ، وأرجع بحجة؟!! "
يقول جابر بن عبد الله : " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً
سهلاً ، حتى إذا هَوِيَتْ الشيء تابعها عليه ، فأرسلها مع عبد الرحمن بن
أبي بكر فأهلّت بعمرة من التنعيم … " . قال النووي : " سهلاً : أي سهل
الخلق ، كريم الشمائل ، لطيفـًا ميسرًا في الخلق "(رواه مسلم) .
فما أعظم سماحته - صلى الله عليه وسلم - مع أهله في مثل هذا الموطن المزدحم ، وفي حال السفر .
3-
مع المدعوين : وتأمل سماحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته :
فحين وجد ريح ثوم في مسجده ، نهي الصحابة عن أن يرد أحد مسجده قبل ذهاب ريح
الثوم منه ، وكان المقصود بالنهي (المغيرة بن شعبة) يقول - رضي الله عنه -
: " أتيته فقلت : يا رسول الله إن لي عذرًا ، ناولني يدك - قال فوجدته
والله سهلاً - فناولني يده ، فأدخلتها في كمي إلى صدري ، فوجده معصوبـًا ،
فقال : إن لك عذرًا " فعذره حين وجد أنه أكل الثوم لمرض ، وكم نحتاج إلى أن
نتأسى بهذه السماحة مع المدعوين لنكون مبشرين غير منفرين ، ميسّرين غير
معسّرين .
4- العلاقة بين الصبر والسماحة : وإن مما عرّف به رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - الإيمان قوله : (الإيمان: الصبر والسماحة)(صحيح
الجامع) .
حيث عرّف الإيمان بحسن المعاملة مع الخالق والمعاملة مع
المخلوق ، وكأنما يريد بالصبر علاقة العبد مع ربه ؛ بالصبر على طاعته ،
والصبر عن معصيته والصبر على أقداره ، وكأنما أراد بالسماحة علاقة العبد
بأخيه ؛ بحيث تغلب عليها السهولة والمياسرة والسماحة ، وقابلية التوسيع
والتناول لرضى الله ، وفيما يرضي الله وربما كان من حكمة الربط بينما أن
السماحة تقتضي قدرًا كبيرًا من الصبر والتحمل : (وَلَمَن صَبَرَ وغَفَرَ
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)(الشورى/43) .
فكن سمحـًا إذا عاملت أو دعوت ، سمحـًا إذا حاورت أو رافقت ، سمحـًا إذا ظُلمت أو جُهل عليك ، فرسالتنا حنيفية سمحة .