+
----
-
اقزام البيت
الكبير
سعادتي اليوم ليس لها حدود ، فأنا أحمل رسالة خطيرة ، إلى
الرجل
الأسير ، في البيت الكبير .
واليوم أيضاً نهاية دوامي
في مهنة ساعي البريد .
منذ
عشرات السنين وأنا أنظر بلهفة لهذا البيت الكبير ،
من فوق جبل ساحق ، شهيق
، أو من فوق برج عاجي ، معزول ، وفي كل مرة أراه
بشكل جديد .
ويبقى الثابت فيه، بيت كبير ، كبير ، واسع ، فسيح ، له
شرفات أربعة ، ويتوسطه مسبح أحمر طويل ، طويل .
وها
أنا ذا بعد مشقة الطريق
، أتأقزم تحت أسوار البيت الكبير ، ويتفصد جسدي
عرقاً غزيراً ، وألتقط
أنفاسي من الجهد تارة ، والرهبة تارات ، فيا ترى
ماذا وراء أسوار البيت
الكبير ؟! وكيف يكون الرجل الأسير ؟!
رحت
أتلفت ذات اليسار ،
وذات اليمين ، عسى أن أجد مدخلاً لهذا البيت الكبير ،
بلا جدوى كنت أبحث
، ففكرت أن أتسلق الأسوار كأنني لا زلت شاباً صغير !!
فرنوت بطرف عيني
ثم تابعت بعينين متلهفتين ، وإذا برقبتي ترفع رأسي لأعلى
، ثم لأعلى ،
حتى فقدت توازني وطحت على الأرض وأنا أصرخ ، أصيح ، وأضحك ،
أقهقه على
نفسي ، وأنا أفكر في تسلق سور لا أرى نهايته !!
جلست
على الأرض وقد نال
التراب من سترتي ، والجهد من جسدي ، واليأس يكاد يملأ
قلبي ، أين المدخل
لهذا البيت الكبير ؟! ولماذا لهذه الدرجة هو حصن ، حصين
؟! وعدت أشحذ
عزيمتي ، وأتطلع للتجول في ساحات وغرف البيت الكبير ، وأنظر
للعالم من
شرفاته الأربعة ، وأسبح في الحمام المرجاني الأحمر الطويل !!
فانتابتني
ثورة ، وقمت ، ركضت ، وأنا أتقافز كطفل صغير ، نحو سور البيت
الكبير ،
ولما دنوت منه بقيت راكضاً ، كأني أسعى لاصطدام رهيب !! وتعالت
ضحكاتي
مجلجلة ، بهذا الجسد الهزيل ! سأقض أسوار البيت الكبير ؟!
تلامس
كتفي الضعيف ،
بأحجار الأسوار ، فتزلزلت الأرض ، واهتز السور ، راح يترنح
، وجاء
يتأرجح ، حتى دك السور ، وهوى من حيث لم أرى ، حتى صار ركامه تحت
قدمي ،
وانكشفت عورة البيت الكبير ، صحن فسيح ، فسيح ، وزحام كثيف ، كثيف
،
وإذا بأقزام يحتشدون ، ومن حولي يلتفون ، يعتمرون قبعات حديدية ملونة ،
ويحتمون
بدروع زجاجية مبلورة ، ويضربون الأرض ضرباً مزلزلا، ويطلقون صيحات
مجلجلة
، فجثوت على ركبتي رافعاً يدي فوق رأسي مستسلماً ، ومتوسلاً ، فلما
جثوت
انسحبوا ؟! كتمت ضحكاتي التي تتدافع من أعماق أعماقي ، ودهشتي التي
ملأتني
حتى كدت أنفجر منها ، أهذا هو البيت الكبير ؟! وهؤلاء الأقزام من
تسكنه
؟! ياله من شيء عجيب ! عجيب .
وقفت
وغطرسة القوة تملأني ، وغرور العمالقة
تملكني ، فرحت أتقدم في ردهات البيت
الكبير ، وأنا أستبيح كل ما تقع
عليه عيني ، أو تلمسه يدي ، وأنا أنادي ،
أصرخ ، أصيح :
_ أين أنت أيها الرجل الأسير
؟! يا ساكن الوهم الكبير !!
وإذا
بمئات الأقزام تحتشد من جديد ، وتلتف من حولي ،
وتلقي علي شباك من حديد ،
من ثقلها رحت أهوى حتى جثوت على ركبتي ، ثم
إستويت والأرض ، وصار وجهي
مسحوقاً ، ذليلاً ، فدنا من وجهي نعل حذاء
غليظ ، رفعه منتعله على خدي ،
وراح بلا رحمة يدهسني كأني له عدو منذ
ملايين السنين . وبلا وعي رحت أصرخ
، وأتوسل له أن يرحمني ، وتترائي
أمام عيني أجساد معلقة كذبائح على أسوار
البيت الكبير ، وأخرى مطاردة في
فضاء أضيق من حبل الوريد ، وتزاحمت على
أذني صيحات مجلجلة ، وأخرى
متألمة ، حتى لم أعد أفرق بينهما ؟! وآخرون
بالسياط يجلدون ، وبالنار
يكتوون ، وفي الزوايا أجساد فحمتها صواعق
الكهرباء ، وحرائر عاريات لم
يتبق من أجسادهن إلا العظام ، وفي السراديب
عبر أنفاق الظلام ، آلاف
ترقد بدون سلام ، فصحت غاضباً في ذلك الحذاء ،
وأنا أسأله :
- من هؤلاء ؟!
فرد مستغرباً بصوت خشن فيه من القسوة ما تشاء :
- هؤلاء هم أعداء الزعيم ؟!!
فأسرعت مستفسراً :
- الرجل الأسير ؟
فرد مزمجراً:
- جلالة الملك ، سمو الأمير ، فخامة الرئيس ؟!
فصحت فيه وأنا غاضباً :
- إني احمل رسالة عاجلة للرجل الأسير .
فضحك ضحكة ليس بها من الضحك
إلا الرنين وقال في سخرية :
- تقصد العملاق
الأخير ؟!
فأشرت
بيدي أن نعم ، ووجدت نفسي أجر من قدمي مهيناً ،
ذليلاً ، عبر طرقات واسعة
، والأقزام تتأملني كأنني شيء غريب ، أقزام
متصارعة ، وأخرى محتلة ،
وأخيرة لاجئة وما من مغيث ، ورحت أرقب من بعيد ،
بعيد ، وجوه اليأس تملكها
، وعيون الرعب أفزعها ، وأبت إلا أن تخترق
أذني بلا رحمة ، أنات ، وآهات ،
ونحيب ، لم تكن من البشر ، بل من الأرض ،
والأحجار ، والسنين ؟!
وتوقفت
الأحذية ، وراحت تفك أوصادي ، وأنا في حالة
بالية ، أستحي من نفسي ، ولا
أكاد اصدق ما حل بي من مجموعة أحذية ؟! حتى
تنحنح صوت ينبهني ، ملأ قلبي
بالطمأنينة ، وأشعرني أنني باق في دنيا
جميلة :
- مرحباً يا ساعي البريد ؟!
سمعت
هذا كترتيل الترانيم ،
وتذكرت إنني لا زلت ساعي البريد ، وسأبقى كذلك ،
سأبقى حتى لا يعد في
الدنيا وليد !! ولكني أجهشت في بكاء شديد ، شديد ،
وفاضت من عيني
أنهاراً ، تكفي لتفيض أنهار البيت الكبير ، وضحكت في الوقت
نفسه ، ضحكات
مجلجلة ، رنانة ، وأخذت أهز أكتافي وأقهقه ، من فرحة لقائي
بالرجل
الأسير ، ربت على كتفي بيده وأمسك بي ، وجذبني لأعلى ، وأنا بجسدي
أستجيب
، ولا زلت أجهش في بكائي ، ولا يزال يهزني ضحك مميت ، حتى أدارني
إليه ،
ولامست أطراف أنامله لحيتي التي مرغت في تراب الوهم الكبير ، ورفع
رأسي
وأنا لا زلت أجهش في بكائي ، ويهزني ضحك مميت ، ومن بين غرو رقت
الدموع
، لمحت نوراً ، منبعث من وجه آسر ، بريء من كل الذنوب ، فرحت أكبح
جماح
بكائي ، وأضع أصابعي على شفتي لأمنع ضحكاتي ، حتى توقفت تماماً ، فمد
يده
إلي مصافحاً وهو يكرر :
- مرحباً يا
ساعي البريد
فنظرت في الأرض على استحياء وقلت بصوت المنكسر الذليل :
- هذا ما تبقى مني يا سيدي ! فأنا حطام ساعي البريد !
فعاد ورفع رأسي لأعلى قائلاً :
- لا تقل هذا فلك العمر المديد !! وإن لي عندك رسالة
فهل بقيت ، أم سحقت تحت نعالهم ؟!
فرحت أفتش في كل أركاني ، ووجهي يكسوه فزع
كبير ، حتى لامستها مندسة بين آلام قلبي ، وأحزان صدري ، فصحت وأنا أمسكها
وأعطها له :
- وجدتها يا سيدي ، الرسائل لا
تضيع ، يضيع من يحملها !!
فتح
الظرف ، أمسك بالخطاب ، ورقة حمراء ، يسكنها حبر
أخضر وهاجاً ، ويحدها
خطوط صفراء ، وحمراء ، وبيضاء ، مرسوم فيها صقور ،
ونسور ، وغربان ،
وتيجان ، وخناجر ، وسيوف ، ونخل ، وزيتون ، ورمان ،
وليمون ، وبرتقال ،
وأخذ يتمتم قائلاً :
- ولد الأمل من رحم اليأس ، والبؤس ، والحرمان ؟!