سورة الكهف وضرورة التغيير السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
سورة الكهف وضرورة التغيير
لعل
من الأمور المساعدة على اكتشاف المعاني، النظر للنص من أكثر من زاوية،
والدخول له من أكثر من مدخل، ومحاولة جمع المتشابهات والمتخالفات في الأمور
التي يمكن الموازنة بينها، ومن ذلك القصص القرآني، فيمكن استثمار القصص
الواردة في السورة الواحدة؛ لمعرفة دلالات كثيرة ودقيقة، ولعلي هنا أقف مع
سورة الكهف وقصصها الأربعة بالترتيب الآتي:
قصة الفتية، ثم قصة صاحب الجنتين، ثم قصة موسى والعبد الصالح، ثم قصة ذي القرنين، ويمكننا أن ننظر إلى هذه القصص من زوايا عدة مثل:
1- موضوع القصة العام.
2- طريقة عرض القصة.
3- طريقة استهلال القصة.
4- طريقة ختام القصة.
5- التعقيب على القصة.
6- أهم أفكار القصة.
7- الزمان في القصة.
8- المكان في القصة.
9- المشترك في القصص.
10- ما تتميّز به كل قصة.
وسأثير هنا بعض المعاني والدلالات، وأشير إلى بعض الملامح السريعة في القصص الأربعة، وأترك الباقي للتأمل والنظر.
فمثلاً
لو استعرضنا قضية المكان في القصص الأربعة، وكيفية التعامل معه، لوجدناه
في القصة الأولى (المدينة والكهف)، وفي الثانية (الجنتين)، وفي الثالثة
(مجمَع البحرين، البحر، الصخرة، القرية، المدينة)، وفي الرابعة (مغرب
الشمس، مطلع الشمس، بين السدين).
ولو
تأملنا كيفية التعامل مع هذه الأمكنة، لوجدنا أن القصص الثلاثة (الفتية،
وموسى، وذو القرنين) فيها انتقال ظاهر من مكان إلى آخر، فيها تغيير للمكان،
فيها حركة، والقصة الوحيدة التي فيها دخول هي قصة صاحب الجنتين، ولهذا
اختلفت نتيجة القصص بحسب ذلك، وبيان ذلك كالآتي:
في
قصة الفتية نجد أنهم انتقلوا من المكان الذي لم يستطيعوا أن يقيموا فيه
شرع الله، ولم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم فيه وهو (المدينة)، لهذا انتقلوا
عنها، وكان الموضع الآخر هو (الكهف)، ولو تأملنا الموضعين لرأينا الاختلاف
الكبير بينهما، فالمدينة فيها النعيم والترف، والاجتماع والأنس بالناس،
والكهف فيه الانعزال، والانفراد، وشظف العيش، وربما الوحشة، وقد قيل: إن
هؤلاء الفتية كانوا من مترفي القوم ومن عليتهم، بدليل طلبهم أزكى الطعام
ووجود الوَرِق معهم، لكن مبدأهم جعلهم يتنازلون عن ملذات الدنيا الحسية إلى
طلب راحة القلب والنفس فذاك هو النعيم، ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد، لأن
الشرك يشتت القلب والفكر، ويجعل الروح في حيرة وشك.
لقد
انتقلوا من القصور والدور إلى الكهف، وعوضهم الله عن الراحة فيها، بالنوم
في الكهف، فتحقق الصبر والثبات لهم، حتى زالت عن المدينة مظاهر الشرك.
وأما
قصة موسى عليه السلام والعبد الصالح؛ فالانتقال فيها ظاهر، وذلك من خلال
تتبع ألفاظ تُشعر بالانتقال مثل: (لاَ أَبْرَحُ (أي: أسير) حَتَّى أَبْلُغَ
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)، وهذا انتقال أوَّليٌّ، ثم
حصل انتقال آخر من مجمع البحرين من قرب الصخرة إلى موضع آخر يظهر من قوله
تعالى: ((فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ
لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا))، ثم حصل انتقال ثالث من تذكرهما
فقدان الحوت إلى الموضع الذي فقدوه فيه ((فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا
قَصَصًا))
وواضح من كل هذا التنقّل
والترحال، الذي تبيِّنه ألفاظ مثل: (أمضي، سفرنا، ارتدا) أن تغيير المكان
كان أمرًا جوهريًّا في هذه القصة، ولهذا جاءت الأحداث بعد ذلك مبنية على
التحرك والرحلة والتغيير، يظهر ذلك من تكرار كلمة (فانطلقا) مع كل حدث
(السفينة، الفتى، الجدار)، ولو تأملنا هذه الأحداث لوجدناها كلها حوادث
فيها تغيير للمكان، ومتابعة للمسير، وكأن في هذه التغير تعليم لما هو جديد
من خلال الموقف والحدث، لا من خلال الحكاية والمعلومة، وقد يكون في ذلك
إرشاد إلى أنّ التعلم يحتاج إلى سفرٍ وتنقُّل دائم، وأن تغيير مكان
التعلُّم مهم في تنويع مصادر المعلومة.
وقد
عوض الله موسى عليه السلام رحلته ونصبه وسفره بالعلم الذي لم يكن يعلمه،
حيث فسّر له الخضر هذه الحوادث العجيبة، التي لم يكن له علم بأسبابها أو
أسرارها.
وأما قصة ذي القرنين فيظهر
الانتقال من أول أحداثها ((فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ
عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ
وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ
فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا
نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً
الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ
عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ
وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ))
ونجد
في ذكر مغرب الشمس، ثم بعده مطلع الشمس ما يشير إلى سرعة التنقّل، وإلى
بُعْدِه أيضًا، وقد نتج عن هذا التنقل وتغيير المكان بسط النفوذ على
المساحة الكبيرة من الأرض، كما نتج عنه كثرة الأتباع، واستثمار كل مقدرات
هذه المواضع من الكوادر البشرية والمادية، وتوجيه كل ذلك في وجوه الخير.
وإذا
تأملنا القصص الثلاثة التي فيها خروج وتغيير وانتقال؛ لوجدناها انتهت
بنتائج طيبة، وأشخاصها مؤمنون أخيار، بينما نجد القصة الوحيدة التي كان
فيها دخول هي قصة صاحب الجنتين، وقد جاء فيها ((;وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ))، وتلك الجنة تمثل الدنيا كما تشير إلى ذلك الآيات
التي أعقبت القصة ((;وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ
فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ))، فكأنما هي تصوير لتوجّهه إلى الدنيا؛ لهذا خسر،
بينما القصص الأخرى كان فيها خروج من الدنيا وراحتها، إلى العمل والإنجاز
والنفع، وتعرَّض أشخاصها للنصب وشظف العيش والتعب، لذا نالوا مرادهم،
وأضافوا شيئًا، أما ذاك فقد خسر كل شيء، نفسه وماله، فهل تأملنا هذه
المعاني في هذه القصص، وكأنما هي بذلك ترسم لنا منهج النجاح في هذه الحياة،
إننا يجب أن نحدد أهدافًا واضحة وعظيمة، تستحق أن نحيا من أجلِها، والجامع
لها هو الخير والنفع، والمحرِّك فيها هو الإيمان بالله، ومَن يحدد هدفًا
عظيمًا لابد أن يتعب من أجل تحقيقه، وقد يصيبه في سبيل ذلك تعب أو نصب أو
جوع أو خوف، وقد يحتاج إلى سفر وانتقال، ولهذا لا نجد ناجحين مؤثرين لم يكن
الانتقال والسفر أحد صفاتهم الرئيسة، لهذا كان من أعظم أحداث البعثة
النبوية؛ الهجرة من مكة إلى المدينة، فكان نصر النبي صلى الله عليه وسلم من
الأبعَدِين لا مِن الأقرَبِين، فهل يدرك المؤمنون هذه المعاني، ويكونون
مؤثرين في التغيير، ولهم بصمات واضحة في الأمم؟
ومضة:
إن من يقرأ سورة الكهف كل أسبوع يجب أن تحدث فيه تغييرًا وتطويرًا وتبثّ
فيه إشعاعًا نحو النجاح والتغيير، نحو تحقيق الأهداف والتغلب على الصعاب.
والله الموفق