بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين،
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما
ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقا وارزقنا
اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلا وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون
القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس العشرين من شمائل النبي صلى الله عليه و
سلم، وصلنا إلى جوامع من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الكريمة، وقد يسأل
سائل ماذا يعنينا وصفُ النبي الظاهري ؛ لونُه، وشكل وجهه، وشعره، هذه
الأوصاف الظاهرة ماذا تعنينا.
للإجابة عن هذا السؤال أقول: لو أن الإنسان رأى النبيَّ صلى الله عليه و
سلم في منامه على خلاف هذه الأوصاف فلا تُعدُّ هذه رؤيا للنبي عليه الصلاة
والسلام، لا تُعدُّ رؤيا صحيحة للنبي، رؤيا النبي الصحيحة إذا كانت على هذه
الأوصاف، هذه واحدة، و الشيء الثاني، ورد في الأثر:
"لو أن الوجه الحسن رجلٌ لكان رجلا صالحا "، الوجه الحسن لا يعني أنه أبيض اللون، الوجه الحسن فيه صفاء، فيه نور، و
فيه براءة، فلو نظرتَ إلى سيدنا بلال لرأيت في وجهه من الصفاء، والطهر،
والبراءة ما يسبي، فإذا قلنا: وجه حسن فلا نعني لونا، و لا نعني تلك الشروط
التي اتَّفق الناسُ على أنها مقياس الجمال، لكن المؤمن في وجهه نور، ووجه
المؤمن صفحة نفسه، وجه المؤمن مرآة نفسه، صفاؤه في وجهه، وعفافه في وجهه،
وحياؤه في وجهه، وإخلاصه في وجهه، وبراءته في وجهه، وذاتيته في وجهه، فلذلك
من علامات الإنسان المقبل على الله عزوجل أنك ترى إقباله في وجهه،
والإنسان لو نظر إلى وجهه و كان فاتر الهمة نحو الله لرأى في وجهه اختلافا،
لو نظر في وجهه و كان بعيدا عن الله عزوجل لا يعجبه وجهه، فجمال الوجه
الذي نتحدَّث عنه لا علاقة له إطلاقا بصفات الجمال التي تواضع الناسُ
عليها، بل أقصد بجمال الوجه هذه الروحانية، وذاك الصفاء، وذاك الطهر الذي
يبدو على صفحة وجه الإنسان، فالنبي عليه الصلاة والسلام كما روى السيوطي في
الجامع الصغير عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: سألت خالي هند بن
أبي هالة و كان وصَّافا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأنا أشتهي أن
يصف لي منها شيئا أتعلَّق به فقال هند بن أبي هالة:
((كان رسول الله صلى الله صلى الله عليه و سلم فخما مفخَّما))
معنى فخما، أي ذا هيبة عند نفسه وعند الناس ؛ و
بالمناسبة أيها الإخوة المؤمنون لا أقول هذا كبر، ولا استعلاء، ولكن المؤمن
يحترم ذاته، لأنه طاهر ولأنه مستقيم، ولأنه صادق، ولأنه أمين، فاستقامته
وطهرُه يورثان احتراما لذاته، لذلك لا يضع نفسه موضع صغار، ولا موضع تهمة،
ولا يقبل أن يكون في موضع مهانة، والمؤمن كما قال عليه الصلاة و السلام:
((شرف المؤمن قيامه في الليل و عزُّه استغناؤه عن الناس))
[الحاكم في المستدرك عن سهل بن سعد]
ولا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه، فالنبي كان
فخما، ذا هيبة عند ذاته، والإنسان إذا احترم نفسه لم يضعها في موضع التهمة،
وهأنذا أذكر لكم أمثلةً طفيفة، لو أن إنسانا كلَّفك بشيء ونسيت أن تؤمِّن
له هذا الشيء، وسألك بعد حين، فبإمكانك أنْ تقول مثلاً إني وجدتُ المحلَّ
مغلقا، فلو قلت خلاف الحقيقة سقطت من عين نفسك، ولا تغدو محترِما لها،
فينبغي أن تكون صادقا، أن تقول له: واللهِ نسيت، إذا قلت له نسيت ربما
عاتبك، أو ربما لامك على نسيانك، لكنك تبقى فخما عند نفسك، فكان عليه
الصلاة و السلام فخما مفخَّما، المؤمن لا يكذب، ويُطبع المؤمن على الخلال
كلِّها إلا الكذب والخيانة، و إذا كذب سقط من عين نفسه، وقد تبدو عند الناس
عظيما، والأقوياء عند الناس عظماء، والأغنياء عند الناس عظماء، لكن لو
أنهم كسبوا مالا حراما، أو وصلوا إلى هذه القوة على أنقاض الآخرين، عندئذ
يسقطون من أعين أنفسهم، وأنا ألِحُّ على فكرة ؛ يجب أنْ تحترم ذاتك، يجب أن
تقدِّر ذاتك، كلما كنت مستقيما وعفيفا وصادقا وذا مبدأ ولا تساوم على
مبادئك، ولا تقول إلا حقا، ولا تدارِ، ولا تجامل، ولا تنافق، ولا تزوِّر،
شعرتَ أنك عظيم عند نفسك، و المعوَّل عليه أن تحترم ذاتك، فعلماء السيرة
يقولون: كان فخما مفخَّما، أي فخما عند ذاته ذا هيبة، و مفخَّما عند
الآخرين، هذا من أين يأتي ؟ يأتي من أن المؤمن خلوتُه كجلوته، وسرُّه
كعلانيته، والذي في قلبه على لسانه، وما نطق به لسانُه يؤكِّده قلبُه، ليس
هناك اثنينية، وليس هناك ازدواجية، ليس هناك موقف معلن و موقف حقيقي، ليس
هناك شيء يفعله في العلانية يستقطب به إعجاب الناس، وهناك مخازٍ يفعلها
فيما بينه وبين نفسه فيحتقر نفسه، فكلمة:
((كان فخما مفخَّما))
تعني أن الإنسان المؤمن سريرته كعلانيته،
خلوته كجلوته، وهو في بيته مثله خارج بيته، بأكمل وضع، لذلك ليس هناك في
حياته ازدواجية ولا اثنينية، هذا معنى:
((كان فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر))
هذا الجمال الذي يكسبه الإنسان إذا أقبل
على الله، و اللهِ هو سرٌّ، وكل واحد منا يلاحظ نفسه أحيانا عقب صلاة
متقنة، عقب ذكر صحيح، عقب تلاوة قرآن مع بكاء، فلو نظر إلى وجهه في المرآة
لرأى وجهه كالبدر، هو نفسه عقب انشغال بالدنيا، عقب دخول في مشكلة، لو نظر
إلى وجهه لوجد هناك فتورًا، وجمودًا، فالجمال الذي نعنيه بهذه الأوصاف جمال
الروح، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، المربوع بين
القصير والطويل، كان عليه الصلاة والسلام أطول من المربوع، و أقصر من
المشذَّب، لا طويل بائن، ولا قصير، فوق المربوع بقليل، هذا طوله صلى الله
عليه و سلم، عظيم الهامة، رأسه ليس صغيرا لا يتناسب مع جسمه، و ليس مفرطا
في الكِبر، رأسه يتناسب مع جسمه، وهذا من صفات الجمال في الإنسان، أن يكون
متوافقا مع جسمه، عظيم الهامة، رَجِل الشعر، أي في شعره بعض الجعد، هناك
أشخاص شَعرهم إذا رجَّله يبدو جَعِدا، فالذي وصف النبيَّ عليه الصلاة
والسلام يقول:
((رجِل الشعر، إذا انفرقت عقيقتُه فرقها))
أي كان يفرق شعره يمنة ويسرة، العقيقة هي
الشعر، أزهر اللون، كان أبيض اللون، مُشربا بحُمرة خفيفة، فالنبي عليه
الصلاة والسلام أزهر اللون، واسع الجبين، وسعة الجبين صفة رائعة في
الإنسان، واسع الجبين، أزَجَّ الحواجب، حواجبه دقيقة، سوابغ في غير قرَن،
أمُّ معبد حينما وصفت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: كان أزجَّ أقرن،
وهنا أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، العلماء قالوا: إذا نظرت إليه من بعيد
ظننته أزجَّ أقرن، أما إذا نظرت إليه من قريب رأيت حواجبه دقيقة، و غير
متَّصلة، و هذه الصفة أيضا تصبغ على الوجه جمالا، بينهما عِرق يدِرُّه
الغضبُ، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب في حاجبيه عرق ينبض، أقنى
العِرنين، أي أنفه عالٍ، ومحدَّب، وهذا أيضا جمال في الأنف، له نور يعلوه،
كثَّ اللحية، غزير الشعر، سهل الخدَّين، ليس فيه نتوء، هناك تعبير آخر أسيل
الخدِّ، ضريع الفم، فمه واسع، من أجل الفصاحة، مفرَّز الأسنان، بين أسنانه
فراغات، وهذه صفة أيضا رائعة في الأسنان دقيق المسربة، هناك خطُّ شعر من
تُرقوته إلى سُرَّته، دقيق المسربة، كأنّ عنقه جلدُ دُمية في صفاء الفضة،
معتدل الخلق، أي لا هو مفرِط في الحجم، ولا هو نحيل، معتدل الخلق، بادن أي
ممتلئ، متماسك، أحيانا تكون عضلات الرَّجُل رخوة، متهدِّلة، لكن عضلاته صلى
الله عليه وسلم مشدودة، بادن متماسك، سواء البطن و الصدر، عريض الصدر،
بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، والكراديس رؤوس العظام، أنور
المتجرَّد، أي لو رفع عن عضده ليتوضأ، كانت أعضاؤه منيرة، أشعر الذراعين، و
المنكبين، وأعالي الصدر، كان في ذراعيه ومنكبيه وأعالي صدره شعر كثير،
طويل الزندين، رحب الراحة، شفن الكفَّين والقدمين، أي كفَّاه وقدماه
متماثلتان مع جسمه، سائل الأطراف، أو شائل الأطراف، أي أطرافه متناسبة في
طولها مع جسمه، خمصان الأخمصين، فلان أخمص، أي هناك مساحة في قدمه لا تلتصق
بالأرض، هذه تعينه على المشي، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما
الماء، أي قدماه على انسياب تام، لو صببت الماء عليهما لسال الماء، لا توجد
تعرُّجات، إذا زال قِلعا، أي لا يشحط، إذا مشى يرفع رجله وكأنه يقلعها،
إذا زال قلعا يمشي هونا، ذريع المشية، أي واسع الخطوة، إذا مشى كأنه ينحطُّ
من صبب، أي من منحدر، و إذا التفتَ التفت جميعا، خافض الطرف تواضعا لله
عزوجل، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلُّ نظره الملاحظة، ألم
يقل عليه الصلاة و السلام:
((أُمرتُ أن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرة))
يسوق أصحابه، كان يقدِّمهم أمامه، ويبدر من
لقي بالسلام، طبعا هذه صفات النبي عليه الصلاة و السلام، وقد جمعها سيدنا
حسَّان بن ثابت في هذين البيتين:
وأحسن منكَ لم تر قطُّ عيني و أجمل منك لم تلد النساءُ
خُلقت مبرّأً من كل عيــب كأنك قد خُلقت كما تشـاء
***
ولكن في خلُقه، وفي دعوته، وفي جهاده، وفي
أخلاقه، وفي أمانته، ولكن لا مانعَ من خلال هذه الدروس عن شمائل النبيِّ
صلى الله عليه وسلم، أن نقف مرة واحدة عند أوصافه الظاهرة صلى الله عليه و
سلم.
قال الحسنُ رضي الله عنه لهند بن أبي هالة:
((صِف لي منطق رسول الله صلى الله عليه و سلم - كما
تعلمون: جمال الرجل فصاحته - فقال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
متواصل الأحزان))
لماذا ؟ التفسير سهل، لو أن أمًّا لها ابن
موقوف، لو وُضع الطعام بين يديها، ولو أخذت إلى أجمل الأمكنة، فقلبها حزين
دائما على ابنها، لأن النبي عليه الصلاة و السلام أرحم الخلق بالخلق، قال
تعالى:
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ(128)﴾
[سورة التوبة]
من شدَّة رحمته على الخلق كان متواصل الأحزان،
لأنه يرى مصير الخلق، أما نحن فإذا أكرم اللهُ عزوجل الإنسان بالهدى
والاستقامة يقول: الناس هالكون، فليس في قلبه رحمة، هو يفرح باستقامته،
ويفرح أنه نجا، لكن لا يشعر بحُرقة لهؤلاء الناس الذي شردوا عن الله عزوجل،
و مصيرهم معروف، فمن عِظم رحمة النبي ومن عِظم كمال أخلاقه أنه كان متواصل
الأحزان، لأنه يرى الخلق كلَّهم عيال الله، وأكثرهم هالكون، دائم الفكرة،
هذا العقل أثمن شيء أكرمنا الله به، هذا يعمل دائما، متواصل الأحزان دائم
الفكرة، ليست له راحة، كما وصف اللهُ عزوجل المؤمنين:
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)﴾
[سورة السجدة]
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ:
((إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ))
[رواه أحمد]
المؤمن الصادق لا يركن إلى الدنيا، لأنها
تغرُّ، وتضرُّ، وتمرُّ، مهما اعتنى بحياته الخاصة، لا بدَّ من نزول القبر،
مهما اعتنى ببيته لا بدَّ من مغادرته، عشْ ما شئت فإنك ميِّت و أحبب من شئت
فإنك مفارق و اعمل ما شئت فإنك مجزيِ به، طويل السكوت، والإنسان كلما خزن
لسانه كبُر عقلُه، فهو عليه الصلاة والسلام طويل السكوت، لا يتكلَّم في غير
حاجة، لا يتكلم إلا عند الضرورة، كان طويل السكوت، متواصل الأحزان، ليست
له راحة دائم الفكرة، يفتتح الكلام ويختتمه باسم الله تعالى، المؤمن إنْ
دخل بيته قال: السلام عليكم، وإنْ جلس سمَّى، وإنْ جلس ليأكل سمَّى، وإذا
دخل إلى بيته سلَّم، بين السلام والتسمية،و بين الحمد و الشكر، دائما يذكر
الله عزوجل، إذًا يفتتح الكلام ويختتمه باسم الله تعالى، ويتكلَّم بجوامع
الكلِم، كلامه موجز، وكلامه بليغ، ليس هناك تفاصيل ممِلَّة، وليس في كلامه
جزئيات تافهة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ
بِالرُّعْبِ فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ
الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ ذَهَبَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ
تَنْتَثِلُونَهَا))
[رواه البخاري]
كلامه فصل، لا فضول فيه، ولا تقصير، ليس فيه
إيجاز مخِلٌّ، ولا إطناب مملٌّ، ليس بالجافي، أي مؤنِس، يألف، ويُؤلف،
هناك إنسان عنده جفاء، وغلظة، ليس بالجافي، ولا المَهين، أي هناك شخص نفسه
دنيئة، خانع يقبل الذلَّ، ليس بالجافي، ولا المهين، يعظِّم النعمة، وإن
دقَّت، فمشيُ الإنسان، وحركتُه نعمةٌ، وحين ينام كذلك، أنا أعرف أخًا بقي
أكثر من سنة لا ينام الليل، أنا أتصوَّر لو قيل له: أتدفع كلَّ ما تملك من
أجل أن تنام ليلة واحدة لما تردَّد أبدا، يمشي، وينام، ويرى، ويسمع، وينطق،
وعقله سليم، وله بيت، كان عليه الصلاة والسلام يعظِّم النعمة مهما دقَّت،
والإنسان حينما يعظِّم النعمة يزيدها الله عليه، قال تعالى:
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾
[سورة إبراهيم]
و لا يذمُّ منها شيئا، هناك إنسان يسبُّ بيته،
يقول: الله يلعن هذا البيت، والساعة التي اشتريته فيها، فليعلمْ أنّ هناك
ناسًا لا يملكون بيتًا، وهناك ناس ليس عندهم غرفة واحدة، أحيانا الإنسان
يسبُّ أهله، ويسبُّ ماله، ويسبُّ نفسه، النبيُّ عليه الصلاة والسلام لا
يذمُّ منها شيئا إطلاقا، ولم يكن يذمُّ طعاما ولا يمدحه، فإذا ذمَّ
الإنسانُ طعاما فماذا يعني ذلك ؟ أنه متكبِّر، وإذا مدحه فهو ذو بطنة، إذا
ذمَّه متكبِّر، وإذا مدحه يكون غارقا في لذائذ الطعام، أحيانًا بعض الناس
يصف لك الأكل وصفا دقيقا، هذه مثل الفستق، وهذه مثل الهليون، وهذا طعام صار
نيفة، كان عليه الصلاة و السلام لا يذمُّ طعاما، ولا يمدحه، مدح الطعام
دليل أنه عبد بطنه، وذمُّ الطعام دليل أنه متكبَّر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:
((لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ))
[رواه البخاري]
لو دُعيت إلى كراع بالغميم لأجبت " كراع مأدم
فقط، بالغميم، وهو مكان بعيد عن مكة، كأنْ يكون الشخص يسكن في الشام،
والدعوة بمنطقة الكسوة، ولا بدَّ أن يأخذ سيارة أو اثنتين، ويكابد مشقَّة
السفر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ))
[رواه البخاري]
اللهم صلِّ عليه، أي على مأدم خارج المدينة
يجيب الدعوة، وإجابة الدعوة أدب مع الله، وإجابة الدعوة مودَّة مع الناس،
وجبر خاطر، لا تغضبه الدنيا، ولا ما كان لها، أيْ شيء فَقَده، شيء ما
أدركه، شيء فاته، لذلك وُصِف سيدُنا الصدِّيق رضي الله عنه بأنه لم يندم
على شيء فاته من الدنيا قط، أحيانا تجد شخصا زوجته من سنِّه، فهو مغموم طول
حياته، يقول: هي من سنِّي، يعني أنه كبيرة السن بالنسبة له، قال لي واحد:
وشهرين زيادة، أيْ أكبر منه بشهرين، أي فاتته الزوجة الرائعة، لأنّ زوجته
كبيرة السن كما يدّعي، يقول لك: أنا لو ما دخلت في هذه الوظيفة لكنت الآن
تاجرا، ولكن كل عمري دخلي محدود، لأن أباه أراد أن يكون فلهويًا فتركه يكمل
دراسته، أما أخوه الذي أخرجه من المدرسة، وشغَّله معه صار معه ملايين،
حُرِق قلبه أسفًا على حاله، لكنّ الصدِّيق لم يندم على شيء فاته من الدنيا
قط، لأن الدنيا عنده صغيرة، بمالها، ونسائها، وبيوتها، ومركباتها،
ومساكنها، ولأنها مؤقَّتة، يقول لك: أُتيحت لي بعثة، وشطبوا اسمي آخر لحظة،
يعيد لك القصة مائة مرة، واللهِ هذه القصة حفظناها، شطبوا اسمك آخر لحظة،
فاعلمْ إذًا أنّ هذا قدرك، فارضَ، واللهُ يعوِّضك، ولا تغضبه الدنيا، ولا
ما كان لها، فإذا تُعدِّي الحقُّ لم يُقَم لغضبه شيء حتى ينتصر له، النبيُّ
عليه الصلاة والسلام كلُّ غضبه للحق، فلا يغضب لنفسه، وإذا انتُهكت حرمات
الله غضب، ولا يغضب لنفسه أبدا، ولا ينتصر لها، لذلك المؤمن يغضب لله،
ويحبُّ لله، ويوادد لله، ويعادي لله، أمّا لذاته فلا، وإلا صار أنانيا، إذا
أشارَ أشار بكفِّه كلها، هذا من الأدب، وإذا تعجَّب قَلَبَها، أي في أثناء
كلامه يقوم بحركات أو إشارات، وضرب براحته اليمنى بطنَ إبهامه الأيسر،
هكذا، هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام، ما قال له: صِف لي منطقه، وإذا
غضب أعرض، وأشاح، هناك إنسان إنْ غضِب لم يترك عليه سترا مغطَّى، يسب أباه
على أبي أبيه، والأب الذي خلَّفه، لكن النبي عليه الصلاة والسلام إذا غضب
أعرض، وأشاح فقط، هذه أخلاق لا لأخذ العلم، و لكن كي نقتدي بها، دروسنا هذه
ليست لأخذ العلم، ولكن كي تكون قدوة لنا، وإذا غضب أعرض، وأشاح، المنافق
إذا خاصم فجر، المنافق عنيف جدًا، وإذا فرح غضَّ طرفه، من شدَّة تواضعه لله
عزوجل، كل إنسان يسمع خبرا طيِّبا، كأنْ ينجح في الامتحان، أو يفوز بشيء،
ينال شهادة مثلا، يشتري بيتا يتزوج، تجده شاكرًا ربِّه دائما، إذا فرح
غضَّ طرفه، جلُّ ضحكه التَّبسّم، هناك إنسان إذا ضحك ينقلب نصفين، ينقلب
إلى الوراء، و أحيانا إلى الأمام، يخرج معه صوتٌ كأنه صراخ، قال تعالى:
﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)﴾
[سورة لقمان]
قال: جلُّ ضحكه التبسُّم، يفترُّ عن مثل حَبِّ الغمام.
و قال الحسين رضي الله عنه: (سألتُ عليًّا رضي الله عنه عن دخول
النبيِّ صلى الله عليه و سلم إلى بيته - فمثلاً رجل يدخل بيتَه، وكلُّ
إنسان له طبع، هناك إنسان لا يخلع ثيابه، بل يجلس فورًا، بينما غيرُه ينزع
ثيابه رأسًا ويبعثرها، وإنسان ينزعها ويعلِّقها، فالنبي عليه الصلاة و
السلام كيف يكون إذا دخل بيتَه ؟ قال: كان عليه الصلاة و السلام إذا أوى
إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء، جزءا لله عزوجل)، البيت ليس
قبرا، ليس للنوم، المنافقون جيفة في الليل دابة في النهار، عمل شاقٌّ في
النهار، ونوم طويل في الليل، وما درى أنّ هناك صلاة الفجر، وهناك تلاوة
قرآن، وهناك جلسة مع الأهل، هناك أمر بالمعروف، وهناك مطالعة، وهناك
مؤانسة، وهناك ذكر، هناك دعوة إلى الله هناك قيام ليل، قال: (إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءًا لله عزوجل)، لي ساعة مع ربي، كما قال عليه الصلاة و السلام:
((لي ساعة مع ربي لا يسعني فيها نبيٌّ مرسل، ولا ملك مقرَّب))
تقول السيدة عائشة:
((كان عليه الصلاة و السلام يحدَّثنا ونحدِّثه - إنسان لطيف مؤنس - فإذا دخل وقت الصلاة فكأنه لا يعرفنا و لا نعرفه))
هذا وقت الله عزوجل، أحيانا تلاحظ موظَّفًا في
دائرة يطلبه الوزير، يقف أمام المرآة، ويركِّز وضعه، ويصلح ثيابه، وينظر
إلى شعره، لأنه داخل لمقابلة وزير، النبي عليه الصلاة والسلام إذا دخل وقت
الصلاة، قالت: كأننا لا نعرفه، ولا يعرفنا، هذا وقت الصلاة، (وجزءًا لأهله وجزءا لنفسه)،
قسم يرتاح فيه، وينام، وقسم لأهله، كلما رُفعت إليَّ قضية زوجية نسأل
سؤالا، وألِحُّ عليه، وتبيَّن أحد أكبر أسباب الخصومة الزوجية، أنه يذهب
باكرا، ويعود في منتصف الليل، فقد جعلَ البيت فندقا، يتعشَّى، وينام، في
الصباح الباكر ينطلق إلى العمل، هذه الزوجة تصعد روحها، فلابد أنْ يخصِّص
جزءا لأهله، إذًا وقته جزءٌ لربِّه، وجزءٌ لنفسه، وجزءٌ لأهله، هذا وضع
النبي في البيت، قال: ثم جزَّأ جزءَه الخاص به بينه وبين الناس، أي وقته
الخاص، وهو في البيت كان يحلُّ به بعض المشكلات، هناك حالة خاصة، هناك
صديق، هناك مشكلة هناك فتوى خاصة، هناك حلُّ مشكلة، هناك خصومة زوجية، هناك
أخ له سؤال معقَّد مثلا، فهذا الجزء الخاص به قسمه جزأين، بينه وبين
الناس، وكان من سيرته في جزء أُمَّته إيثار أهل الفضل، الناس عنده مراتب
هناك شخص قريب، شخص له مكانة في المجتمع، فهو يعرف منازل الناس، فعَنْ
مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ:
((أَنَّ عَائِشَةَ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ
كِسْرَةً وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ
فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ))
[رواه أبو داود]
إذًا و كان من سيرته صلى الله عليه و سلم في
جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمة ذلك على قدر فضلهم، فمنهم ذو
الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومهم ذوُو الحوائج، فيتشاغل بهم، أي كان عليه
الصلاة والسلام يرى أن حلَّ مشكلات الناس عبادة، يا من كانت الرحمةُ
مهجتَه، والعدل شريعته، والحبُّ فطرته، ومشكلات الناس عبادته، يشغل وقته
بما يصلحهم في دنياهم وأخراهم، وكان عليه الصلاة و السلام يقول:
((ليبلغ الشاهد الغائب منكم، و أبلغوني حاجة من لا
يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة أو حاجة من لا يستطيع إبلاغها
ثبَّت الله قدميه يوم القيامة))
كان أصحابه عليهم رضوان الله يدخلون عليه
روادًا، ولا يفترقون إلا عن ذواقٍ، أي كان يكرمهم في بيته، يقدِّم لهم
ضيافة، من شدَّة كرمه عليه الصلاة و السلام، يستقبلهم، ويحلُّ مشكلاتهم،
ويقدِّم لهم طعاما يأكلونه، ويخرجون من عنده، وهم أدلَّة على الخير،
امتلؤوا محبَّة لهذا النبي، وإعجابا بعلمه، وكرمه، وإيناسه، وتواضعه،
فأصبحوا أدلّة عليه.
أما إذا خرج من بيته كان عليه الصلاة والسلام يخزن لسانه، إلا فيما يعنيه:
احفظ لسانك أيها الإنســان لا يلدغنَّك إنه ثعبـــانُ
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءَه الشجعانُ
***
الإنسان لو ندم على السكوت أفضل من أن يندم
على الكلام، الساكت في أمان، أما المتكلِّم فله، أو عليه، فكان عليه الصلاة
و السلام إذا خرج من بيته يخزن لسانه، إلا فيما يعنيه، فعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
((مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ))
[رواه الترمذي]
ويؤلِّف، ولا ينفِّر، يجمع، ولا يفرِّق،
يقرِّب، ولا ينفِّر، ويكرِّم كريم كل قوم، ويولِّيه عليهم، أي يضع الكريم
أميرا لا اللئيم، أحيانا تجد مجموعة موظَّفين متقدِّمين في السنِّ أصحاب
خبرة يقودهم شابٌ أرعن، هذا خطأ كبير، مدرسة فيها ثلاثون أو أربعون مدرَّسا
يشكلِّون نخبة، تجد المدير أحيانا أقلَّهم سنًّا، وأشدهم رعونة، وكذلك في
مستشفى مثلا، أو في دائرة، فمِن سياسة النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه كان
يكرِّم كريم كل قوم، ويولِّيه عليهم، ويحذر الناسَ، ويحترس منهم من غير أن
يطويَ عن أحد منهم بِشره، وخلُقه، مؤنس، ولطيف، و بشوش، طليق الوجه، لكنه
ليس ساذجا، شخص لا تعرفه فعليك أنْ تكون حذرا، النبيُّ علَّمنا فقال:
((المؤمن كيِّس فطِن حذر))
فالمؤمن الصادق ليس من السذاجة حيث يُخدَع،
ولا من الخبث حيث يَخدع، المؤمن لا يُخدع، ولا يَخدَع، له أكمل موقف، ليس
من الخبث بحيث يَخدع، و لا من السذاجة حيث يُخدع، فكان عليه الصلاة السلام
يكرِّم كريم كل قوم، ويولِّيه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن
يطويَ عن أحد بِشره، وخُلقه، ويتفقَّد أصحابَه، كان مربِّيا، هناك مدرِّس
يلقي درسا، وينصرف، لكن هناك مدرِّس آخر يسأل عن زملائه: فلان ما رأيناه، و
فلان ما أخباره ؟ وفلان لعله مريض، فلا بد من عيادته، لعله سافر، اسألوا
لنا عنه، زوروه إذا كان مريضا هذه محبَّة، محبَّة، ورحمة، وإخلاص، ووفاء،
وتربية، بعكس ما إذا سأل عنك أخٌ، يقال له: ما دخلُك فيه ؟ أنت مخطئ، كثَّر
اللهُ خيرَه، جزاه الله عنا كلَّ خير، إذا تفقَّدك، ولو بهاتف، وقال لك:
أمسِ ما رأيناك في الدرس، غلا قلبنا عليك، وأنت غالٍ علينا، فتجد مَن يصفه
فيقول: هذا حشري، لا ليس حشريًا، أنت لست فّهِما، هذا مؤمن كريم، يريد أن
يأخذ بيدك إلى الله عزوجل، يتفقَّد أصحابه، و في السيرة وردت مواقف كثيرة،
يسأل: أين فلان ؟ أين فلانة ؟ مرة في تبوك تفقَّد بعض الصحابة فقال: أين
فلان ؟ واحد غمز بأنه شغله بستانُه عن الجهاد معك يا رسول الله، وفقام
صحابيٌّ آخر وقال: لا واللهِ يا رسول الله، لقد تخلَّف عنك أناس ما نحن
بأشدَّ حبًّا لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدوًّا ما تخلَّفوا عنك، ابتسم
النبيُّ، وأعجبه ذلك، أعجبه دفاع الصحابة عن بعضهم بعضا، أعجبه هذا الموقف
النبيل، كن سيفا عند غياب أخيك، سيفا تدافع عنه، والمؤمن له حرمة، من عامل
الناس فلم يظلمهم، وحدَّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت
مروءته، و ظهرت عدالته، ووجبت أخوَّته، و حرمت غيبته، ومن أحسنَ الظنَّ
بأخيه فكأنما أحسن الظن بربه.
واللهِ أنا أعدُّ إلى المليون قبل أن أقول: المؤمن يكذب، ليس معقولا أن
يكذب، وليس معقولا أن يأكل مالا حراما، مؤمن يعرف اللهَ، فإذا اتَّهمتَ كل
الناس الجيِّدين، معناه أن الدين باطل، من أحسن الظن بأخيه المؤمن فكأنما
أحسن الظن بربه، أنت تتَّهم المنهج عندما تتهم المؤمنين، فلا تفعل، فهذا
المنهج من لوازمه الاستقامة، من لوازمه الصدق، والأمانة، والعفة، والورع،
فكيف تتَّهم أخاك اتِّهاما كبيرا بلا مبرِّر وبلا دليل، يتفقَّد أصحابه،
ويسأل الناس عما في الناس، ليس منعزلا يعيش ببرج عاجي، متقوقِع، لا، هو مع
الناس، معهم في مشكلاتهم، معهم في أفراحهم، ومعهم في أتراحهم، معهم في
مصائبهم، معهم في مكتسباتهم، معهم بكل أحوالهم، إذا لم تعِش مع الناس فكيف
يعنيك أمرهم ؟ و كيف يحبُّونك ؟ يجب أن تعيش همومهم.
والحقيقة إخواننا الكرام، المؤمن الصادق إذا أراد أن يكون داعية إلى الله
عزوجل يجب أن يشعِرَ المدعو أن مشكلته مشكلة الداعي، هذه رحمة، يسأل الناس
عما في الناس، كان سيدنا عمر رضي الله عنه أول سؤال يطرحه على ولاته إذا
لقيهم: (كيف الأسعار عندكم ؟)، فمثلاً قد يأتي أخ من جهات
الشمال في بلادنا، كيف الأمطار عندكم ؟ كيف الشغل ؟ الأهل ؟ انظر إلى هذا
السؤال فإنه يرقِّق القلب، أهلك، أولادك، عملك، المنطقة عندكم جيِّدة،
الأمطار جيِّدة إن شاء الله، أجد هذا الكلام فيه محبَّة، وفيه مودَّة، هناك
شخص يقول: يا ليتها لم ينزل مطر الآن، لأني ألبس البذلة، وقد انتزعت
بالمطر، تجده أنانيا، صغيرا في التفكير، لِتنتزع ألف بذلة، فالله يرحم
الناس بالمطر فما بالك ؟ ويحسِّن الحسن، ويقوِّيه، إذا وجد عملا طيِّبا
يشجِّعه، ويقبِّح القبيح، ويوهِّيه، أي العمل الطيِّب يشجِّعه، والعمل
السيِّئ يضعفه، أمّا إذا كسب شخصٌ مالا حراما، وقال آخر: إنه يدبر حاله،
فهذه انتكاسة، وقد شاركه في الإثم، وهو لا يدري، معناه أنك شجَّعته، كسب
مالا حراما، وتعتبره ذكيا، يقول: لا ليس سارقا، ولكنه ذكي، فإذا وهَّنت
الباطل وضعَّفته فأنت مؤمن، وإذا حسَّنت الحسن، وقوَّيته فأنت مؤمن، تلك
تحجَّبت، فبدت مثل البومة، المغتابون الأدب عندهم معدوم، هذه لا بدَّ أن
تشجِّعها، و تقول لها: ما شاء الله، الله يكرمُك، بينما آخر يصفها: كيس
أسود، هناك أشخاص ليس فيهم أدب، يعيبون الحسن، ولكنه كان يحسِّن الحسن
ويقوِّيه، ويقبِّح القبيح، ويوهِّيه، معتدل الأمر غير مختل، أي ليس عنده
أوامر فيها شطح، كأن يقال: شيء لا يُطاق، قال: إذا أردتَ أن تُطاع فأمُرْ
بما يُستطاع، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو أن يميلوا، ولا يتساهل مع أصحابه
في العبادات، إذا تساهل يسيِّبونها بعد ذلك، همَّته عالية ودائما يحثُّ
أصحابه على الهمة العالية، لا يقصِّر عن حق، ولا يجاوزه، الذين يلونه من
الناس خيارهم، أقرب الناس لك يكون أكمل الناس، الإنسان يُعرف بمن حوله،
لذلك صحبة الأراذل تجرح العدالة إذا كان الإنسان ساقطًا بذيء اللسان، شارب
خمر، وجلست معه، وآنسته، واستقبلته، ورحَّبت به، وأكرمته، ما شاء الله
حولك، تحسب أنك فهيم ذكي !! أعوذ بالله ، أنت اقترنت به، لذلك الذين
يلونه من الناس، خيارهم، الإنسان ينتقي أحسن منه دائما، أفضلهم عنده
أعمُّهم نصيحة، لا يُقدِّر المنافقين، فكل إنسان قوي تجد حوله أناسًا
ينافقون له، فليحذر أحدُنا من هؤلاء، هذا الصحابي الجليل الحباب ابن المنذر
لما اختار النبي موقعا ببدر جاء إلى النبيّ، وهو أعلى في درجات الأدب، قال
له: يا رسول الله هذا الموقع وحي أوحاه اللهُ إليك، أم رأي، و مشورة ؟ ذكي
جدًّا، إذا كان وحيًا فلا مجال لأتكلم ولا بحرف، أما إذا كان رأيا فالأمر
يختلف، قال: بل هو الرأي والمكيدة، قال له: ليس هذا بموقع، رجل نصوح، فمن
هذا الموقف علَّمنا النبيُّ أن نقبل النصيحة، أنت قرِّب الذي ينصحك، أقول
لكم كلمة: الذي يمدحك يثبِّطك، أما الذي ينصحك فإنه يرفعك، كلما نصحك نصيحة
تجدك ارتفعت، فالعاقل بصير، ماذا قال سيدنا عمر: (أَحَبُّ ما أهدى إليَّ أصحابي عيوبي)،
إذا كنت مؤمنا متواضعا تحبُّ من ؟ الذي ينصحك، لا الذي يمدحك، الذي ينصحك
يحبُّك، أما الذي يمدحك يتملَّقك، أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة
ومؤازرة، وفي درس قادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى آدابه الجمَّة في مجلسه
مع أصحابه رضوان الله عليهم.
والحمد لله رب العالمين