[center]فِي شَرْحِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَّا
مُحَمَّدٌ ، فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَمِدَ فَهُوَ مُحَمَّدٌ ، إِذَا
كَانَ كَثِيرَ الْخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا ، وَلِذَلِكَ كَانَ
أَبْلَغَ مِنْ مَحْمُودٍ ، فَإِنَّ مَحْمُودًا مِنَ الثَّلَاثِيِّ
الْمُجَرَّدِ ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْمُضَاعَفِ لِلْمُبَالَغَةِ ، فَهُوَ
الَّذِي يُحْمَدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ مِنَ الْبَشَرِ ،
وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - سُمِّيَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ
لِكَثْرَةِ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا هُوَ وَدِينُهُ
وَأُمَّتُهُ فِي التَّوْرَاةِ ، حَتَّى تَمَنَّى مُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ، وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى
هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ هُنَاكَ ، وَبَيَّنَّا غَلَطَ أبي القاسم
السهيلي حَيْثُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ ، وَأَنَّ اسْمَهُ فِي
التَّوْرَاةِ أَحْمَدُ .
وَأَمَّا أَحْمَدُ ، فَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ
أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُشْتَقٌّ أَيْضًا مِنَ الْحَمْدِ . وَقَدِ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ ؟
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ ، أَيْ حَمْدُهُ لِلَّهِ
أَكْثَرُ مِنْ حَمْدِ غَيْرِهِ لَهُ ، فَمَعْنَاهُ : أَحْمَدُ
الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ ، وَرَجَّحُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ قِيَاسَ
أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَنْ يُصَاغَ مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ لَا مِنَ
الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ ، قَالُوا : وَلِهَذَا لَا
يُقَالُ مَا أَضْرَبَ زَيْدًا ، وَلَا زَيْدٌ أَضْرَبُ مِنْ عَمْرٍو ،
بِاعْتِبَارِ الضَّرْبِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ ، وَلَا : مَا أَشْرَبَهُ
لِلْمَاءِ ، وَآكَلَهُ " - ص 88 -" لِلْخُبْزِ ، وَنَحْوِهِ ، قَالُوا :
لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَفِعْلَ التَّعَجُّبِ إِنَّمَا يُصَاغَانِ
مِنَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ ، وَلِهَذَا يُقَدَّرُ نَقْلُهُ مِنْ " فَعَلَ "
وَ" فَعِلَ " الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ وَمَكْسُورِهَا ، إِلَى " فَعُلَ "
الْمَضْمُومِ الْعَيْنِ ، قَالُوا : وَلِهَذَا يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ
إِلَى الْمَفْعُولِ ، فَهَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ ، كَقَوْلِكَ : مَا
أَظْرَفَ زَيْدًا ، وَأَكْرَمَ عَمْرًا ، وَأَصْلُهُمَا : مِنْ ظَرُفَ
وَكَرُمَ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمُتَعَجَّبَ مِنْهُ فَاعِلٌ فِي الْأَصْلِ
، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ، قَالُوا : وَأَمَّا
نَحْوُ : مَا أَضْرَبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو ، فَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ " فَعَلَ
" الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ إِلَى " فَعُلَ " الْمَضْمُومِ الْعَيْنِ ،
ثُمَّ عُدِّيَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِالْهَمْزَةِ ، قَالُوا : وَالدَّلِيلُ
عَلَى ذَلِكَ مَجِيئُهُمْ بِاللَّامِ ، فَيَقُولُونَ : مَا أَضْرَبَ
زَيْدًا لِعَمْرٍو ، وَلَوْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى تَعَدِّيهِ ، لَقِيلَ :
مَا أَضْرَبَ زَيْدًا عَمْرًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ
بِنَفْسِهِ ، وَإِلَى الْآخَرِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ ، فَلَمَّا أَنْ
عَدَّوْهُ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ عَدَّوْهُ إِلَى
الْآخَرِ بِاللَّامِ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ أَنْ قَالُوا :
إِنَّهُمَا لَا يُصَاغَانِ إِلَّا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ ، لَا مِنَ
الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ .
وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ
آخَرُونَ ، وَقَالُوا : يَجُوزُ صَوْغُهُمَا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ ،
وَمِنَ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ ، وَكَثْرَةُ السَّمَاعِ بِهِ مِنْ
أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِهِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : مَا
أَشْغَلَهُ بِالشَّيْءِ ، وَهُوَ مِنْ شُغِلَ فَهُوَ مَشْغُولٌ ،
وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ مَا أَوْلَعَهُ بِكَذَا ، وَهُوَ مِنْ أُولِعَ
بِالشَّيْءِ فَهُوَ مُولَعٌ بِهِ ، مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ لَيْسَ إِلَّا ،
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : مَا أَعْجَبَهُ بِكَذَا ، فَهُوَ مِنْ أُعْجِبَ
بِهِ ، وَيَقُولُونَ مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ فَهُوَ تَعَجُّبٌ مِنْ فِعْلِ
الْمَفْعُولِ ، وَكَوْنِهِ مَحْبُوبًا لَكُ ، وَكَذَا : مَا أَبْغَضَهُ
إِلَيَّ ، وَأَمْقَتَهُ إِلَيَّ .
وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ
ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ ، وَهِيَ أَنَّكَ تَقُولُ : مَا أَبْغَضَنِي لَهُ ،
وَمَا أَحَبَّنِي لَهُ ، وَمَا أَمْقَتَنِي لَهُ : إِذَا كُنْتَ أَنْتَ
الْمُبْغِضَ الْكَارِهَ ، وَالْمُحِبَّ الْمَاقِتَ ، فَتَكُونُ
مُتَعَجِّبًا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ ، وَتَقُولُ : مَا أَبْغَضنِي
إِلَيْهِ ، وَمَا أَمْقَتَنِي إِلَيْهِ ، وَمَا أَحَبَّنِي إِلَيْهِ :
إِذَا كُنْتَ أَنْتَ الْبَغِيضُ الْمَمْقُوتُ ، أَوِ الْمَحْبُوبُ ،
فَتَكُونُ مُتَعَجِّبًا مِنَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَى الْمَفْعُولِ ،
فَمَا كَانَ بِاللَّامِ فَهُوَ لِلْفَاعِلِ ، وَمَا كَانَ بِـ " إِلَى "
فَهُوَ لِلْمَفْعُولِ . وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ لَا يُعَلِّلُونَ بِهَذَا ،
وَالَّذِي يُقَالُ فِي عِلَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ : إِنَّ اللَّامَ " - ص
89 -" تَكُونُ لِلْفَاعِلِ فِي الْمَعْنَى ، نَحْوُ قَوْلِكَ : لِمَنْ
هَذَا ؟ فَيُقَالُ : لِزَيْدٍ ، فَيُؤْتَى بِاللَّامِ . وَأَمَّا " إِلَى "
فَتَكُونُ لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَعْنَى ، فَتَقُولُ : إِلَى مَنْ يَصِلُ
هَذَا الْكِتَابُ ؟ فَتَقُولُ : إِلَى عَبْدِ اللَّهِ ، وَسِرُّ ذَلِكَ
أَنَّ اللَّامَ فِي الْأَصْلِ لِلْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ ،
وَالِاسْتِحْقَاقُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْفَاعِلِ الَّذِي يَمْلِكُ
وَيَسْتَحِقُّ ، وَ" إِلَى " لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، وَالْغَايَةُ
مُنْتَهَى مَا يَقْتَضِيهِ الْفِعْلُ فَهِيَ بِالْمَفْعُولِ أَلْيَقُ ؛
لِأَنَّهَا تَمَامُ مُقْتَضَى الْفِعْلِ ، وَمِنَ التَّعَجُّبِ مِنْ فِعْلِ
الْمَفْعُولِ قَوْلُ كعب بن زهير فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ :
فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ وَقِيلَ إِنَّكَ مَحْبُوسٌ وَمَقْتُولُ
مِنْ خَادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الْأُسْدِ مَسْكَنُهُ بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
فَأَخْوَفُ
هَاهُنَا ، مِنْ خِيفَ فَهُوَ مَخُوفٌ لَا مِنْ خَافَ ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُمْ : مَا أَجَنَّ زَيْدًا ، مِنْ جُنَّ فَهُوَ مَجْنُونٌ ، هَذَا
مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ .
قَالَ الْبَصْرِيُّونَ :
كُلُّ هَذَا شَاذٌّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، فَلَا نُشَوِّشُ بِهِ
الْقَوَاعِدَ ، وَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ مِنْهُ عَلَى الْمَسْمُوعِ ، قَالَ
الْكُوفِيُّونَ : كَثْرَةُ هَذَا فِي كَلَامِهِمْ نَثْرًا وَنَظْمًا
يَمْنَعُ حَمْلَهُ عَلَى الشُّذُوذِ ؛ لِأَنَّ الشَّاذَّ مَا خَالَفَ
اسْتِعْمَالَهُمْ وَمُطَّرِدَ كَلَامِهِمْ ، وَهَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ
لِذَلِكَ ، قَالُوا : وَأَمَّا تَقْدِيرُكُمْ لُزُومَ الْفِعْلِ وَنَقْلَهُ
إِلَى فَعُلَ فَتَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَمَا تَمَسَّكْتُمْ
بِهِ مِنَ التَّعْدِيَةِ بِالْهَمْزَةِ إِلَى آخِرِهِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ
فِيهَا كَمَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ ، وَالْهَمْزَةُ فِي هَذَا الْبِنَاءِ
لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى
التَّعَجُّبِ وَالتَّفْضِيلِ فَقَطْ ، كَأَلِفِ " فَاعِلٍ " وَمِيمِ "
مَفْعُولٍ " وَوَاوِهُ وَتَاءِ الِافْتِعَالِ وَالْمُطَاوَعَةِ وَنَحْوِهَا
مِنَ الزَّوَائِدِ الَّتِي تَلْحَقُ الْفِعْلَ الثَّلَاثِيَّ لِبَيَانِ
مَا لَحِقَهُ مِنَ الزَّيَادَةِ عَلَى مُجَرَّدِهِ ، فَهَذَا هُوَ
السَّبَبُ الْجَالِبُ لِهَذِهِ الْهَمْزَةِ لَا تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ .
قَالُوا
: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يُعَدَّى
بِالْهَمْزَةِ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّى " - ص 90 -" بِحَرْفِ الْجَرِّ
وَبِالتَّضْعِيفِ ، نَحْوُ : جَلَسْتُ بِهِ وَأَجْلَسْتُهُ وَقُمْتُ بِهِ
وَأَقَمْتُهُ ، وَنَظَائِرِهِ ، وَهُنَا لَا يَقُومُ مَقَامَ الْهَمْزَةِ
غَيْرُهَا ،فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ الْمُجَرَّدَةِ
أَيْضًا ، فَإِنَّهَا تُجَامِعُ بَاءَ التَّعْدِيَةِ ، نَحْوُ : أَكْرِمْ
بِهِ وَأَحْسِنْ بِهِ ، وَلَا يُجْمَعُ عَلَى الْفِعْلِ بَيْنَ
تَعْدِيَتَيْنِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : مَا أَعْطَاهُ
لِلدَّرَاهِمِ ، وَأَكْسَاهُ لِلثِّيَابِ ، وَهَذَا مِنْ أَعْطَى وَكَسَا
الْمُتَعَدِّي ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ نَقْلِهِ إِلَى " عَطَوَ " :
إِذَا تَنَاوَلَ ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ
لِفَسَادِ الْمَعْنَى ، فَإِنَّ التَّعَجُّبَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْ
إِعْطَائِهِ ، لَا مِنْ عَطْوِهِ وَهُوَ تَنَاوُلُهُ ، وَالْهَمْزَةُ
الَّتِي فِيهِ هَمْزَةُ التَّعَجُّبِ وَالتَّفْضِيلِ ، وَحُذِفَتْ
هَمْزَتُهُ الَّتِي فِي فِعْلِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : هِيَ
لِلتَّعْدِيَةِ .
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ عُدِّيَ
بِاللَّامِ فِي نَحْوِ : مَا أَضْرَبَهُ لِزَيْدٍ . . . إِلَى آخِرِهِ ،
فَالْإِتْيَانُ بِاللَّامِ هَاهُنَا لَيْسَ لِمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ لُزُومِ
الْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهَا تَقْوِيَةً لَهُ لَمَّا ضَعُفَ
بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ ، وَأُلْزِمَ طَرِيقَةً وَاحِدَةً خَرَجَ
بِهَا عَنْ سُنَنِ الْأَفْعَالِ ، فَضَعُفَ عَنِ اقْتِضَائِهِ وَعَمَلِهِ ،
فَقَوِيَ بِاللَّامِ كَمَا يَقْوَى بِهَا عِنْدَ تَقَدُّمِ مَعْمُولِهِ
عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ فَرْعِيَّتِهِ ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الرَّاجِحُ
كَمَا تَرَاهُ .
فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ فَنَقُولُ : تَقْدِيرُ
أَحْمَدَ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ : أَحْمَدُ النَّاسِ لِرَبِّهِ ،
وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ : أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِأَنْ
يُحْمَدَ ، فَيَكُونُ كَمُحَمَّدٍ فِي الْمَعْنَى ، إِلَّا أَنَّ الْفَرْقَ
بَيْنَهُمَا أَنَّ " مُحَمَّدًا " هُوَ كَثِيرُ الْخِصَالِ الَّتِي
يُحْمَدُ عَلَيْهَا ، وَ" أَحْمَدُ " هُوَ الَّذِي يُحْمَدُ أَفْضَلَ
مِمَّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ ، فَمُحَمَّدٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْكَمِّيَّةِ ،
وَأَحْمَدُ فِي الصِّفَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ ، فَيَسْتَحِقُّ مِنَ
الْحَمْدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ ، وَأَفْضَلَ مِمَّا
يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ ، فَيُحْمَدُ أَكْثَرَ حَمْدٍ وَأَفْضَلَ حَمْدٍ
حَمِدَهُ الْبَشَرُ . فَالِاسْمَانِ وَاقِعَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهَذَا
أَبْلَغُ فِي مَدْحِهِ وَأَكْمَلُ مَعْنًى . وَلَوْ أُرِيدَ مَعْنَى
الْفَاعِلِ لَسُمِّيَ الْحَمَّادَ ، أَيْ كَثِيرَ الْحَمْدِ ، فَإِنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ حَمْدًا
لِرَبِّهِ ، فَلَوْ كَانَ اسْمُهُ أَحْمَدَ بِاعْتِبَارِ حَمْدِهِ
لِرَبِّهِ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الْحَمَّادَ كَمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ
أُمَّتُهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ إِنَّمَا
اشْتُقَّا مِنْ أَخْلَاقِهِ وَخَصَائِصِهِ " - ص 91 -" الْمَحْمُودَةِ
الَّتِي لِأَجْلِهَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَحْمَدُ وَهُوَ الَّذِي يَحْمَدُهُ أَهْلُ
السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ وَأَهْلُ الدُّنْيَا وَأَهْلُ الْآخِرَةُ ؛
لِكَثْرَةِ خَصَائِلِهِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي تَفُوقُ عَدَّ الْعَادِّينَ
وَإِحْصَاءَ الْمُحْصِينَ ، وَقَدْ أَشْبَعْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي
كِتَابِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا كَلِمَاتٍ يَسِيرَةً
اقْتَضَتْهَا حَالُ الْمُسَافِرِ وَتَشَتُّتُ قَلْبِهِ وَتَفَرُّقُ
هِمَّتِهِ ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التَّكْلَانُ .
وَأَمَّا
اسْمُهُ الْمُتَوَكِّلُ ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ( عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، عَبْدِي
وَرَسُولِي ، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ،
وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ
السَّيِّئَةَ ، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ ، وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى
أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ ، بِأَنْ يَقُولُوا : لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ ) وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ
النَّاسِ بِهَذَا الِاسْمِ ؛ لِأَنَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي
إِقَامَةِ الدِّينِ تَوَكُّلًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ .
وَأَمَّا
الْمَاحِي ، وَالْحَاشِرُ ، وَالْمُقَفِّي ، وَالْعَاقِبُ ، فَقَدْ
فُسِّرَتْ فِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، فَالْمَاحِي : هُوَ
الَّذِي مَحَا اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ، وَلَمْ يَمْحُ الْكُفْرَ بِأَحَدٍ
مِنَ الْخَلْقِ مَا مُحِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، فَإِنَّهُ بُعِثَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ إِلَّا
بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَهُمْ مَا بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ
وَيَهُودَ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَنَصَارَى ضَالِّينَ وَصَابِئَةٍ
دَهْرِيَّةٍ لَا يَعْرِفُونَ رَبًّا وَلَا مَعَادًا ، وَبَيْنَ عُبَّادِ
الْكَوَاكِبِ ، وَعُبَّادِ النَّارِ ، وَفَلَاسِفَةٍ لَا يَعْرِفُونَ
شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا ، فَمَحَا اللَّهُ
سُبْحَانَهُ " - ص 92 -" بِرَسُولِهِ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ
عَلَى كُلِّ دِينٍ ، وَبَلَغَ دِينُهُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ،
وَسَارَتْ دَعْوَتُهُ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ .
وَأَمَّا
الْحَاشِرُ ، فَالْحَشْرُ هُوَ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ ، فَهُوَ الَّذِي
يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِهِ ، فَكَأَنَّهُ بُعِثَ لِيُحْشَرَ
النَّاسُ .
وَالْعَاقِبُ : الَّذِي جَاءَ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ ،
فَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ ، فَإِنَّ الْعَاقِبَ هُوَ الْآخِرُ ، فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ الْخَاتَمِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْعَاقِبَ عَلَى
الْإِطْلَاقِ ، أَيْ : عَقِبَ الْأَنْبِيَاءَ جَاءَ بِعَقِبِهِمْ .
وَأَمَّا
الْمُقَفِّي فَكَذَلِكَ ، وَهُوَ الَّذِي قَفَّى عَلَى آثَارِ مَنْ
تَقَدَّمَهُ ، فَقَفَّى اللَّهُ بِهِ عَلَى آثَارِ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ
الرُّسُلِ ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقَفْوِ ، يُقَالُ :
قَفَاهُ يَقْفُوهُ : إِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُ ، وَمِنْهُ : قَافِيَةُ
الرَّأْسِ ، وَقَافِيَةُ الْبَيْتِ ، فَالْمُقَفِّي : الَّذِي قَفَّى مَنْ
قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَكَانَ خَاتَمَهُمْ وَآخِرَهُمْ .
وَأَمَّا
نَبِيُّ التَّوْبَةِ : فَهُوَ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ بِهِ بَابَ
التَّوْبَةِ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَوْبَةً
لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ قَبْلَهُ . وَكَانَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ النَّاسِ اسْتِغْفَارًا وَتَوْبَةً ،
حَتَّى كَانُوا يَعُدُّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ
مَرَّةٍ : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الْغَفُورُ ) .
وَكَانَ يَقُولُ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا
إِلَى اللَّهِ رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ
مِائَةَ مَرَّةٍ ) ، وَكَذَلِكَ تَوْبَةُ أُمَّتِهِ أَكْمَلُ مِنْ تَوْبَةِ
سَائِرِ الْأُمَمِ وَأَسْرَعُ " - ص 93 -" قَبُولًا وَأَسْهَلُ تَنَاوُلًا
، وَكَانَتْ تَوْبَةُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ ،
حَتَّى كَانَ مِنْ تَوْبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ
قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَلِكَرَامَتِهَا عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ تَوْبَتَهَا النَّدَمَ وَالْإِقْلَاعَ .
وَأَمَّا
نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ ، فَهُوَ الَّذِي بُعِثَ بِجِهَادِ أَعْدَاءِ
اللَّهِ ، فَلَمْ يُجَاهِدْ نَبِيٌّ وَأُمَّتُهُ قَطُّ مَا جَاهَدَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ ، وَالْمَلَاحِمُ
الْكِبَارُ الَّتِي وَقَعَتْ وَتَقَعُ بَيْنَ أُمَّتِهِ وَبَيْنَ
الْكُفَّارِ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا قَبْلَهُ ، فَإِنَّ أُمَّتَهُ
يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ عَلَى تَعَاقُبِ
الْأَعْصَارِ ، وَقَدْ أَوْقَعُوا بِهِمْ مِنَ الْمَلَاحِمِ مَا لَمْ
تَفْعَلْهُ أُمَّةٌ سِوَاهُمْ .
وَأَمَّا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ، فَهُوَ
الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، فَرُحِمَ بِهِ
أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ ، أَمَّا
الْمُؤْمِنُونَ فَنَالُوا النَّصِيبَ الْأَوْفَرَ مِنَ الرَّحْمَةِ ،
وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ عَاشُوا فِي ظِلِّهِ
وَتَحْتَ حَبْلِهِ وَعَهْدِهِ ، وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ هُوَ
وَأُمَّتُهُ فَإِنَّهُمْ عَجَّلُوا بِهِ إِلَى النَّارِ وَأَرَاحُوهُ مِنَ
الْحَيَاةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَا يَزْدَادُ بِهَا إِلَّا شِدَّةَ
الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ .
وَأَمَّا الْفَاتِحُ ، فَهُوَ الَّذِي
فَتَحَ اللَّهُ بِهِ بَابَ الْهُدَى بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرْتَجًا ،
وَفَتَحَ بِهِ الْأَعْيُنَ الْعُمْيَ وَالْآذَانَ الصُّمَّ وَالْقُلُوبَ
الْغُلْفَ ، وَفَتَحَ اللَّهُ بِهِ أَمْصَارَ الْكُفَّارِ ، وَفَتَحَ بِهِ
أَبْوَابَ الْجَنَّةِ ، وَفَتَحَ بِهِ طُرُقَ الْعِلْمِ النَّافِعِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَفَتَحَ بِهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ
وَالْقُلُوبَ وَالْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَمْصَارَ .
وَأَمَّا
الْأَمِينُ ، فَهُوَ أَحَقُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الِاسْمِ ، فَهُوَ
أَمِينُ اللَّهِ عَلَى وَحْيِهِ وَدِينِهِ ، وَهُوَ أَمِينُ مَنْ فِي
السَّمَاءِ ، وَأَمِينُ مَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَلِهَذَا كَانُوا
يُسَمُّونَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ الْأَمِينَ .
وَأَمَّا الضَّحُوكُ
الْقَتَّالُ ، فَاسْمَانِ مُزْدَوِجَانِ لَا يُفْرَدُ أَحَدُهُمَا عَنِ
الْآخَرِ ، " - ص 94 -" فَإِنَّهُ ضَحُوكٌ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ
غَيْرُ عَابِسٍ وَلَا مُقَطِّبٍ وَلَا غَضُوبٍ وَلَا فَظٍّ ، قَتَّالٌ
لِأَعْدَاءِ اللَّهِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ .
وَأَمَّا
الْبَشِيرُ ، فَهُوَ الْمُبَشِّرُ لِمَنْ أَطَاعَهُ بِالثَّوَابِ ،
وَالنَّذِيرُ الْمُنْذِرُ لِمَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ ، وَقَدْ سَمَّاهُ
اللَّهُ عَبْدَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ مِنْهَا ، قَوْلُهُ : (
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ) [ الْجِنِّ : 20 ]
وَقَوْلُهُ : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) [
الْفُرْقَانِ : 1 ] وَقَوْلُهُ : ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى )
[ النَّجْمِ : 10 ] وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ) [ الْبَقَرَةِ : 23 ] وَثَبَتَ عَنْهُ فِي "
الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ : ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ [ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ] وَلَا فَخْرَ ) وَسَمَّاهُ اللَّهُ سِرَاجًا مُنِيرًا ،
وَسَمَّى الشَّمْسَ سِرَاجًا وَهَّاجًا .
وَالْمُنِيرُ : هُوَ الَّذِي يُنِيرُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاقٍ ، بِخِلَافِ الْوَهَّاجِ فَإِنَّ فِيهِ نَوْعُ إِحْرَاقٍ وَتَوَهُّجٍ
المصدر:زاد المعاد في هدي خير العباد