لا تظهر للناس أنك تقي .. وقلبك فاجر
بقلم/ أحمد زكريا
إن من الآفات العظيمة التي تنتاب السائر في طريقه إلى الله – عز وجل – الانفصال التام.. أو شبه التام بين الظاهر والباطن.. والسر والعلانية.
أو قل إن شئت بين الصورة التي رسمناها لأنفسنا وأحببنا أن يرانا الناس عليها.. وبين حقيقتنا الباطنة.. التي تظهر إذا خلونا بأنفسنا.. وأمنا نظر الخلق علينا.
وتلك – وربي – قاصمة الظهر.. ورزء الدهر.. وبلية العمر.
وعندما يضع العبد منا وصية لقمان أمام نظريه:
"يا بني: اتق الله ولا تري الناس أنك تخشى الله ليكرموك بذلك وقلبك فاجر.. فكم يشعر الإنسان بمرارة هذه الكلمة كلما عصى الله - عز وجل –.. كلما لبس الإنسان لباسا زورا.. يسارع لخلعه إذا اختلى بمحارم الله".
وصدق – صلى الله عليه وسلم – عندما قال: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي:
"قال العلماء: معناه المتكثر بما ليس عنده.. بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده.. يتكثر بذلك عند الناس، ويتزين بالباطل، فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور.
قال أبو عبيد وآخرون: هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع، ومقصوده أن يظهر للناس أنه متصفٌ بتلك الصفة ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه، فهذه ثيابُ زورٍ ورياءٍ. وقيل هو كمن لبس ثوبين لغيره وأوهم أنهما له.
وحكي الخطابي قولاً آخر: أن المراد هنا بالثوب الحالة والمذهب، والعرب تكني بالثوب عن حال لابسه، ومعناه أنه كالكاذب القائل ما لم يكن" شرح النووي على صحيح مسلم 4/291.
وورد في حديث آخر قول النبي (صلى الله عليه وسلم
"ومن ادَّعى دعوى كاذبةً ليتكثر بها لم يزده الله تعالى إلا قلة" رواه مسلم.
قال الإمام النووي:
"قال القاضي عياض: هو عامٌ في كل دعوى يتشبع بها المرء بما لم يعط من مالٍ يختال في التجمل به من غيره، أو نسبٍ ينتمي إليه، أو علمٍ يتحلى به، وليس هو من حملته، أو دينٍ يظهره، وليس هو من أهله، فقد أعلم صلى الله عليه وسلم أنه غيرُ مباركٍ له في دعواه، ولا زاكٍ ما اكتسبه بها" شرح النووي على صحيح مسلم 1/223.
وورد في رسالة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قوله:
"من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله".
قال العلامة ابن القيم في شرح هذا الأثر:
"قوله: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله".. هذا شقيقُ كلامِ النبوة، وهو جديرٌ بأن يخرج من مشكاة المحدث الملهم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع:
فأما الكلمة الأولى فهي منبعُ الخير وأصله.
والثانية أصلُ الشر وفصله.
فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه وعمله لوجهه سبحانه كان الله معه; فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟.
فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ .
وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟
وأما قوله: "ومن تزين بما ليس فيه شانه الله" لما كان المتزين بما ليس فيه ضدُ المخلص - فإنه يظهر للناس أمراً وهو في الباطن بخلافه - عامله الله بنقيض قصده; فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتةٌ شرعاً وقدراً.
ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس، عُجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شانه الله بين الناس; لأنه شان باطنه عند الله، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه وشرعه.
هذا ولما كان من تزين للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والنسك والعلم وغير ذلك، قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بد أن تطلب منه، فإذا لم توجد عنده افتضح، فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه.
وأيضاً فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافه، فأظهر الله من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم، جزاءً له من جنس عمله.
وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق.
قالوا: وما خشوع النفاق؟
قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب غير خاشع.
وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن من الإيمان.. فعلم أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقة من كلام النبوة.. وهما من أنفع الكلام، وأشفاه للسقام" إعلام الموقعين 2/275،279.
وليس بعد هذا كلام يقال.. فلنحسن مراقبة الله في خلواتنا وسرنا.. ولنلتفت للحق وحده دون طمع فيما عند الخلق.
فلنجتهد على أنفسنا.. ولننخلع من ذواتنا.. فإنا سنأتي ربنا فرادى.
ولنحذر جميعا أن نكون ممن يقال فيهم:
لا تعجبنك ثياب جملت وإن بدت لناظريها نظيفة
تشبه البيضة لما فسدت فالظاهر أبيض والباطن جيفة
نسأل الله صلاح الباطن والظاهر.. والستر في الدنيا والآخرة