تفسير قوله تعالى : " تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ", مهم لكل آمر للمعروف وناهٍ عن المُــنكر
الحمد لله ..
قال الحقّ - تبارك
وتعالى - :
" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ
أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (44) " البقرة
قال الشيخ العلامة الفقيه الأصولي، الشيخ عبد الرحمن
بن ناصر السعدي - رحمه الله وغفر له - :
" { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أي: بالإيمان والخير {
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي: تتركونها عن أمرها بذلك، والحال: {
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } وأسْمَى العقل عقلا
لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به،
وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر
فلم يتركه، دل على عدم عقله وجهله، خصوصا إذا كان عالما بذلك، قد قامت
عليه الحجة.
وهذه الآية، وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد لقوله
تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا
تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا
تَفْعَلُونَ } ...." .
----
وقال العلامة الإمام الحافظ المُؤرّخ أبو الفداء
إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي - رحمه الله
وغفر له - :
" يقول تعالى: كيف يليق بكم -يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس
بالبر، وهو جماع الخير-أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به،
وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قَصر في أوامر الله؟
أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رَقدتكم، وتتبصروا من
عمايتكم. وهذا كما قال عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله
تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ }
قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وبالبر، ويخالفون،
فَعَيّرهم الله، عز وجل. وكذلك قال السدي.
وقال ابن جريج: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ } أهل الكتاب
والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، وَيَدَعُونَ العملَ بما
يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه
مسارعة.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي: تتركون أنفسكم { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من
النبوة والعَهْد من التوراة، وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم تكفرون بما فيها
من عَهْدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من
كتابي.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في هذه الآية، يقول: أتأمرون الناس بالدخول في
دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة،
وتنسون أنفسكم...."
----
مسألة
إذا كان العبد فاعلا للمعصية ووجد غيره يفعلها هل
ينهاه عنها ؟؟
قال العلامة السعدي -
رحمه الله - في تفسير
الآية السابقة :
وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن
المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك
أحدهما، لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان
بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس
في رتبة الأول، وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم
الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم
بالأقوال المجردة.
----
وقال قال العلامة ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية السابقة :
والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم
على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس
المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر
بالمعروف [معروف] وهو واجب على العالم، ولكن [الواجب و] الأولى بالعالم أن
يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: {
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ
أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود: 88]. فَكُلٌّ من الأمر
بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من
السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا
ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية؛ فإنه لا حجة لهم فيها. والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن
المنكر وإن ارتكبه.
إشْكالٌ، وجوابُه
كل ما سبق ظاهره يتعارض مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عن أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم شفاههم تُقْرَض بمقاريض من
نار. قال: قلت: من هؤلاء؟" قالوا: خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون
الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟ " رواه
أحمد في مسنده
وقوله: " يُجَاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في
النار، فتندلق به أقتابه (2) ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه،
فيطيف به أهلُ النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا
بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم
عن المنكر وآتيه " رواه أحمد في مسنده
فالجواب على هذا الإشكال في ذكره ابن كثير في تفسيره
وهو :
" ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون
بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على
تركهم له، فإن الأمر بالمعروف [معروف] وهو واجب على العالم، ولكن [الواجب
و] الأولى بالعالم أن يفعله مع أمرهم به، ولا يتخلف عنهم ... "
فالمطلوب ممن أمر غيره بطاعة هو لا يفعلها ونهاهم عن معصية هو قد اقترفها
هو أن يبادر بالطاعة ويكف عن المعصية، لا أن يترك الأمر والنهي.
فإن ترك الأمر والنهي لنفسه ولغيره لشمله عقوبتان
:
1- ترك الطاعة وفعل معصية.
2- ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
وما أحسن ما قال مسلم بن عمرو :
ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهد الناس ولا
يزهد
لو كان في تزهيده صادقا ... أضحى وأمسى بيته
المسجد
إن رفض الناس فما باله ... يستفتح الناس
ويسترقد
الرزق مقسوم على من ترى ... يسقى له الأبيض
والأسود
وقال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيري الزاهد يوما على
مجلس التذكير فأطال السكوت، ثم أنشأ يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي
والطبيب مريض
قال: فضج الناس بالبكاء.
وقال أبو العتاهية الشاعر:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى ... وريح الخطايا
من شأنك تقطع
وقال أبو الأسود الدؤلي:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا
فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت
عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك
وينفع التعليم
فلا تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أنك
عاصي لا تفعل الطاعات ،، فالإستدلال بهذه الآية ليس بصواب .
-----------
والحمد لله أولا وآخرا