الحدود والتشريعات فى سورة النساء
مقدمة
وردت فى سورة النساء جملة
من التشريعات فى مناحى الحياة المختلفة نقف عند بعضها وقفة متأنية ونترك
شرحها للمفسرين الذين أفاضوا فى تفسيرها وامتلأت كتب الفقه بآرائهم,
المستمدة مما ورد فى القرآن الكريم, ومما جاء فى سنة نبيه صلوات الله
وسلامه عليه, وما أجمع عليه علماء الأمة, وقد تفردت سورة النساء بورود
أحكام التوريث مفصلة فيها, كما تفردت بذكر المحرمات من النساء, أيضا وردت
فيها أحكام القتل الخطأ, وأحكام الصلاة فى السفر وفى وقت القتال,
أحكام المواريث
قوله تعالى [لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا
مَفْرُوضًا (7)] بِمثابة توطئة لبيان حدود المواريث كما أنزلها الحق
سبحانه تعالى ذلك لأن النساء فى الجاهلية كن لا يورثن ولا يورث الذكر إذا كان صغيرا لم يركب الخيل ولم يدافع عن القبيلة, فبينت هذه الآية أن من حق النساء أن
يرثن وكذلك الرجال صغيرهم وكبيرهم وكذلك الأقربون مما سوف تبينه الآيات
وتفصله على نحو لا يقبل التأويل أو التبديل. ثم تأتى آيات المواريث بشىء من
التفصيل تسبقهن ثلاث آيات لابد من الوقوف عندها لبيان الفضل, وهو ما لا
نجده إلا فى التشريع الإسلامى فقوله تعالى [وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ
أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)] أوجب على ذوى الفضل أن يعطوا من
الميراث من لا حق لهم فيه من أولى القربى ومن الفقراء واليتامى إذا حضروا
القسمة, وقوله تعالى [وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)] بين أن المال لا يضمن عيشا كريما
للذرية وإنّما تضمنه تقوى الله والقول السديد الذى لا عوج فيه, قال تعالى
فى سورو الأنعام (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ), أما قوله تعالى [إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)] ففيه زجر لمن تسول
له نفسه أن يستولى على أموال اليتامى بغير حق, فمثله كمثل الذى يأكل فى
بطنه نارا, وجزاؤه جهنم وبئس المصير, وقد وردت فى هذا الشأن جملة من
الأحكام نقف عندها فى موضع آخر إن شاء الله. يأتى بعد ذلك بيان بالمواريث
لا غموض فيه ولا التباس ولا مجال لتأويل أو تبديل, يقول الحق تبارك وتعالى
[يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ
ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ
كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا
تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ
فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ
بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ
وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)] فهاتان آيتان تضمنتا جل أحكام
التوريث, وقد أفاض السلف فى شرحهما وتفسيرهما ووضعوا الأسس التى تقوم عليها
المواريث بِمقتضى ما جاء فى هذين الآيتين وما جاء فى أحاديث الرسول صلى
الله عليه وسلم ذات الصلة بالموضوع, بيد أننا هنا نشير إلى أن ختام الآية
الأولى بقوله تعالى [فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا
حَكِيمًا] والثانية بقوله تعالى [وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)] ينطوى - فى اعتقادى والله أعلم- على حقيقتين :
أولاهما أن الحق سبحانه العليم بخلقه الحليم بِهم هو الذى حكم بأن تكون
المواريث على هذا النحو, ولا ينبغى أن يتدخل العقل البشرى فى تفسير هذه
الأحكام أو تبريرها, فضلا عن أن يغيرها أو يتحايل على تنفيذ أحكامها,
ولابد من الامتثال لأمر الله فى كل الأمور لأنه ينطوى على حكمة بالغة يخفى
على العقل البشرى منها أكثر مما يظهر, فالحق سبحانه وتعالى هو الأعلم
بشؤون خلقه, وهو الحليم بِهم, وورود أسماء الله الحسنى العليم والحكيم
والحليم يؤكد على هذه الحقيقة, الحقيقة الثانية أن الوصية إذا كانت من عند
الله فهى كالفريضة, لا يُتعدى على حدودها ولا يُعطل تنفيذ أحكامها, يؤكد
ذلك ورود كلمة وصية فى الآية الثانية فى نفس موقع كلمة فريضة فى الآية
الأولى فكلاهما نصب على المصدر على قول أغلب اللغويين أى فرضته فريضة
ووصيت به وصية. ثم تُستكمل أحكام المواريث فى الآية الأخيرة من السورة,
قال تعالى " يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا
تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا
اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا
إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (176)" وهذا الحكم لا يتعارض مع ما جاء فى الآية (12) إذ أن
المقصودين فى هذه الآية هم الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب, أما المقصودون
فى الآية (12) فهم الإخوة لأم, الملاحظ أن الآية اختتمت أيضا ببيان حقيقة
أن الحق سبحانه وتعالى بكل شىء عليم .. ليتوافق ختامها مع ختام الآيتين
السابقتين. أما قوله تعالى (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)
فمعناه : يبين الله لكم هذه الأحكام حتى لا تضلوا إذ أن هنا مفعولا لأجله
محذوفا وتقديره على قول البصريين "كراهة" وعلى ذلك فتقدير النص "كراهة أن
تضلوا". وقد حذر المولى سبحانه وتعالى من تعدى هذه الحدود, أو الالتفاف
عليها بطريق أو بآخر يقول الحق تبارك وتعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ
نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)] المقابلة فى
الآيتين بعد قوله تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ] تجعلنا نقف عندها وقفة
متأنية, فقوله تعالى [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] فى الآية الأولى
يقابله قوله تعالى [وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ
حُدُودَهُ] فى الآية الثانية, فما ورد إجمالا فى القرآن الكريم من أحكام
الميراث جاء مفصلا فى السنة النبوية المطهرة, وطاعة الرسول صلى الله عليه
وسلم من طاعة المولى عز وجل, ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم محاسب
عليها كمعصية المولى عز وجل, وتعدى حدود الله داخل فى معصيته سبحانه
وتعالى, فالمعصية تعميم ينطبق على كل ما أمر الله به, وما نَهى عنه, وتعدى
الحدود تخصيص
يوافق ما ورد فى الآيات من تشريعات, وقوله تعالى [يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا] فى الآية الأولى
يقابله قوله تعالى [يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا] فى الآية الثانية,
إلا أن لفظ جنات أتبع بوصف لها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
يجعل السامع يهفو إليها ويشتاق إلى ما فيها من نعيم, أما لفظ النار فلم
يرد وصف له إذ أن اللفظ فى ذاته فيه نفور وتخويف وكل معانى الفزع والهلع
وما تقشعر له الأبدان, والضمير فى [يُدْخِلْه] فى الآية الأولى تحول إلى
الجمع فى قوله تعالى [خَالِدِينَ فِيهَا] أما فى الآية الثانية فظل على
إفراده [خَالِدًا فِيهَا], ودلالة ذلك والله أعلى وأعلم أن أهل الجنة سوف
يأتنس بعضهم ببعض أما أهل النار فسوف يكونون فرادى كل منهم مشغول بنفسه
يتمنى لو يفتدى من عذاب يومئذ بأحب الناس إليه, كما فى قوله تعالى فى سورة المعارج
[يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ
يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي
تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ] وأريد هنا أن
أشير إلى هذا الترتيب فيمن يود المجرم أن يفتدى نفسه بِهم فقد بدأ بالابن
ثم الصاحبة ثم الأخ ثم قومه الذى نشأ بينهم ثم الناس جميعا, وقد ورد هذا
الترتيب معكوسا حين أشار المولى عز وجل إلى ما سوف يحدث يوم القيامة قبل أن
يحاسب الناس على أعمالهم, وذلك فى سورة عبس
فى قوله تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ
وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ], فحينئذ لم يكن المرء قد عرف مصيره
بعد, فيفر أولا من أخيه ثم من أمه وأبيه فقد كانا مسؤولان عنه فى الدنيا
أكثر مما كان هو مسؤولا عنهما, ثم من صاحبته وأخيرا من بنيه, أما المجرم
الذى قد أيقن أن مصيره إلى النار فيود أن يفتدى نفسه من العذاب حتى لو كان
ذلك بابنه آخر من يفر منه قبل أن يعرف مصيره, وقانا الله شر ذلك اليوم وشر
عذابه, وأبعدنا عن النار بعد المشرقين وأدخلنا جنته إنه على كل شىء قدير
المحرمات من النساء
فى الآيات
التالية حزمة من الأحكام التى تحدد العلاقة بين الرجل والمرأة وفيها كما
سنرى إنصاف للمرأة فى كثير من مناحى الحياة, وفيها جملة من القيم
الإنسانية الرفيعة التى ترقى بالمجتمع, وتنقيه من أسباب التخلف والانحدار
والفساد الأخلاقى والدينى. أيضا فى هذه الآيات تحريم لكثير من العادات
التى كانت منتشرة فى الجاهلية كالجمع بين الأختين والزواج من زوجة الأب
بعد وفاته, وغير ذلك من العادات المستهجنة التى كانت منتشرة فى الجاهلية.
- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
هذه الآية وضعت نِهاية لعادات سيئة كانت تحط من كرامة المرأة قبل الإسلام,
وهى وراثة المرأة؛ إذ كان أهل الزوج أحق بامرأته من أهله بعد وفاته إن
أراد أحدهم أن يتزوجها زوجوها إياه على غير رغبة منها, وإن شاؤوا أن
يزوجوها لغيره فعلوا على غير رغبة منها أيضا, فنالت المرأة حقها فى امتلاك
أمرها بعد وفاة زوجها, فإن أرادت تزوجت ممن تريد, وإن لم ترد بقيت بغير
زواج فى كنف أهلها, كما منعت الآية مسألة عضل المرأة وهى أن تُمنع المرأة
من قبل وليها من الرجوع إلى زوجها بعد طلاقها منه وهى راغبة فى ذلك, أو
ألا يحسن الرجل عشرة امرأته ليضطرها إلى الافتداء بِمهرها, واستثنت الآية
المرأة التى تأتى بفاحشة مبينة, وتفصيل ذلك فى التفسير وفى كتب الفقه لمن
أراد. - وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ
وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ
مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
ينهى الحق تبارك وتعالى فى هاتين الآيتين عن أخذ صداق المرأة فى حال
طلاقها, أو أخذ جزء منه, نَهيا يصل إلى حد التحريم, لأن الزواج فى الإسلام
رباط مقدس ينبغى مراعاة كل الأمور المتعلقة به ووضعها فى مكانِها الصحيح,
وحقوق المرأة فى حال زواجها وفى حال طلاقها من الأمور التى يحرم المساس
بِها, مهما كانت الظروف.
- وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ
الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ
أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا (23)
بينت هاتان الآيات المحرمات من النساء, واختصت الآية الأولى بتحريم زوجة
الأب إذا طلقها أو مات عنها, وكان ذلك منتشرا فى الجاهلية, فجاء الإسلام
بتحريمه, الآية الثانية فصلت المحرمات من النساء, كما حرمت عادة جاهلية
أخرى وهى الجمع بين الأختين, وقياسا على ذلك يحرم الجمع بين البنت وعمتها
والبنت وخالتها.
- وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
المحصنات هنا بِمعنى المتزوجات على قول أغلب المفسرين, فهؤلاء محرمات على
غير أزوجهن أى لا يصح عقد النكاح بِمحصنة وقوله تعالى [إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ] يبيح الزواج من السبايا اللائى وقعن فى الأسر حتى لو كن
متزجات, وقيل المحصنات هن العفيفات من النساء سواء
كن متزوجات أو غير متزوجات, وقوله تعالى [إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ] معناه بنكاح أو شراء, وهو قول فيه وجاهة وإن كنت أميل إلى
القول الأول, وفى كتب التفسير تفاصيل من الأهمية بِمكان يُمكن الرجوع
إليها.
- وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ
أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (25)
ذهب المفسرون فى تفسير الطول مذاهب مختلفة ولكن لا خلاف على أنه عدم القدرة
على الزواج بِمحصنة لسبب أو لآخر, وفى هذه الحالة يكون الزواج من الأمة
هو ما يجب فعله, على أن تؤتى صداقها كاملا فتصبح محصنة بالزواج لا فرق
بينها وبين المحصنة الحرة إلا أنّها تعاقب على فعل الفاحشة إن أتت بِها
بنصف ما تعاقب به الحرة, وتفصيل ذلك أيضا فى كتب التفسير لمن أراد
الاستزادة.
قتل النفس
نَهى الحق سبحانه وتعالى عن قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق,
وهذه الآية تبين حدود قتل النفس إن وقع بطريق الخطأ, يقول الحق تبارك
وتعالى [ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)], أما إذا وقع عمدا, فجزاؤه جهنم
وبئس المصير لقوله تعالى [ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)] واختلف فى قبول توبة
القاتل ولكن هناك شبه إجماع على أن القاتل لا تقبل له توبة, والله أعلى
واعلم.
الصلاة
وردت فى سورة النساء إشارة
إلى الصلاة فى غير الأحوال المعتادة مما نجد تفصيله فى كتب الفقه, يقول
الحق تبارك وتعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا
مُبِينًا (101)] شرع الحق تبارك وتعالى فى هذه الآية قصر الصلاة فى السفر,
وكما قلت فى كتب الفقه شرح وتفصيل لما شرع الله فى هذا الشأن استنادا إلى
ما ورد فى السنة المطهرة وما روى عن السلف, أما الصلاة فى القتال فقد بين
الحق هيئتها فى قوله تبارك وتعالى [ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ
وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ
أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
مُهِينًا (102) ] وهكذا نجد فيما شرع الله تيسيرا على المسلمين فى كل
أحوالهم, فالدين يسر لا مشقة فيه ولا عنت, والصلاة وهى عماد الدين, رخص
الله للمسافر قصرها وبين للمجاهدين كيف يؤدونَها وقت القتال, وفى هذا إشارة
إلى أن الصلاة لا عذر لمن يتركها على أية حال من الأحوال, وأن أداءها يجب
أن يكون ملازما للمسلم تحت أى ظرف من الظروف, أما فى الأحوال المعتادة
فالصلاة تؤدى على تَمامها وفى أوقاتِها, قال تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ
فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)]