حول التفكير الكلي والتفكير الجزئي 2
أحيانا يتجه التفكير من الكل الى الجزء ، وأحيانا من الجزء الى الكل ، لكن ادراك الجزء لا يتم الا من خلال الكلّ ، فقيمة الصفر لوحده هي صفر ، لكن اذا كان في ارقام فهنا تتحدد قيمته ، و هكذا ..
فالجزء المفرد لوحده لا يمكن ادراكه الا من خلال ارتباطاته ، و هذا الجزء وارتباطاته يمكن تسميتها بكلية صغرى ، يجري ربطها بكلية اكبر وهكذا ، فلو غطيت خريطة بقطعة قماش مثقوبة ، وكان الثقب على مدينة القاهرة مثلا ، لا تستطيع من خلال هذا الثقب ان تعرف ما هي هذه المدينة ، لكن كلما نوسع في الثقب كلما يتم تحديدها اكثر ، وهكذا نعرف ان الجزء لوحده غير مُحدَّد ، و هذه المعرفة تمت من خلال كلية صغرى ، اذ لا بد ان يكون عندنا تصور للعالم و الكرة الارضية والشمال والجنوب والقارات ، ثم ندخل بالتفصيل الى المدن والاقاليم , وهكذا ..
أنا شخصيا أفضّل الانطلاق من الكليات الى الجزئيات ، الا اذا اضطرتني جزئية ، و سوف اجدني احتاج الى كلية صغرى لأفهم تلك الجزئية ايضا ، فالثقافة العامة تسهّل الثقافة الخاصة ، و الافضل ان يعرف التلميذ معنى كلمة لغة بشكل عام ، وفائدتها للانسان ، ثم يعرف مستويات اللغة الدلالية والصوتية والتركيبية ، ثم يدرس النحو والصرف .. هذا افضل من ان يـُدرّس التلميذ النحو والصرف مباشرة ..
تذكر قيمة الصفر لوحده .. المعلومة الجزئية غير المربوطة قيمتها ضئيلة . وتزداد قيمة المعلومة كلما اتجهنا اليها من الكل الى الجزء ، لسبب بسيط وهو ان روابطها متكاملة ، فالقدوم من الكل الى الجزء هو قدوم بالروابط و من خلالها الى الجزء ، وبالتالي تكون المعلومة الجزئية مربوطة بالكليات ، اما البداية من الجزء الى الكل ، فقد لا يستطيع الشخص ان يتمم روابطها في الكليات الاوسع ..
العلاقة بين الكليات و الجزئيات هو الذي أنتج الفهم بالنسبية ، فعندما نعرف مساحة المنزل و نحيط بها ، نستطيع ان نحدد هل المطبخ مثلا كبير الحجم او صغير ، أي نسبنا الجزء الى الكل ، لكن لو لم نعرف الكل لفقدنا القدرة على تقييم الجزء ، وصرنا لا نعرف هل المطبخ كبير ام صغير ، ونحن نخطط لمطبخ في منزل مثلا .
لهذا انا اشجع على معرفة الكليات والتركيز عليها اكثر قبل الدخول الى الجزئيات ، لان الربط يسهل حينها ، وبالتالي الفهم بالنسبية . و أكثر شيء ضرّ ثقافتنا وتعليمنا هو المعلومات المفردة ، و جمعها والتركيز عليها ، لدرجة انه لا تـُعرف كلياتها احيانا ..
ولاحظ متعة الفهم دائما تتم من خلال الربط بين الجزء والكل ، وبالتالي الفهم عبارة عن ربط . و الشعور الانساني في رحلة لا تتوقف نحو الربط والارتباط ، وهذا يذكرنا بسخافة فكرة الليبرالية والحرية كشعار عام ؛ فالمعرفة ارتباط و ليست حرية ، والمحبة ارتباط وليست حرية ، والحياة ارتباط وليست حرية ، الموت هو الحرية ، حيث التحرر من قيود الحاجة والطاقة والامن والغذاء الخ .
وهنا نعرف من الكليات العظمى هدف الشعور في الارتباط الاكبر بخالق هذا الشعور وهذا الكون وهذه الحياة وهذا الجمال وهذا الحق والخير ، حيث يتم الاستقرار والاطمئنان ، {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.
قيمة معرفة شيء تؤخذ من مدى سعة دوائر الكليات التي تصل إليها تلك المعرفة ، ومن هنا نفهم سخافة فكرة الماديين بالاكتفاء بالعلم المادي المجرب فقط كغاية نهائية للمعرفة ؛ لان هذا يقلل من عدد الكليات التي يجب ان ترتبط بها المعلومة ، اذ يريدوننا ان نعرف كيف يتكون الليل والنهار علميا ثم نقف ! أي يريدون ايقاف استكمال الكليات ورفض التأمل والتدبر ، و فصل المصنوع عن الصانع..!
ونحن عرفنا أن الغباء يرتبط بنقص الكليات التي تحيط بالمعلومة ، أي يدعوننا الى الغباء باسم العلم ، بينما العلم كلمة منطلقة و ممتدة بامتداد المنطق .. هم يريدون ايقاف المنطق عند الحد الذي يخدم مصالحهم باسم المنهج العلمي . والعلم لا يحب التوقف .
إن التفكير بالجزء هو بداية ، ولكنها تشبه حمل الشجرة من أحد أغصانها ! و قد لا ينجح في توصيلها بالكليات بالطريق الصحيح رغم الثقل ، قال تعالى {يؤتي الحكمة من يشاء} والحكمة تعني الإحاطة والشمولية ، أي كليات وعموميات . تخيل شخصاً في متاهة و دخل من احد الفتحات ، فسوف يبذل مجهودا حتى يخرج الى الجهة الاخرى ، لكن شخصاً آخر يرى من أعلى المتاهة و يحيط بأجزائها ، سوف يدله على الطريق بسهولة ، مثل المطاردات من خلال سيارة الشرطة أصعب من المطاردة بطائرة هيلوكوبتر ؛ لأنها تقدم رؤية عامة للموقع .. أي أن ربط الكل بالجزء اسهل من ربط الجزء بالكل ، او بعبارة أخرى : فهم الجزء من خلال الكل أسهل من فهم الكل من خلال الجزء ، و تذكر الخريطة والقماش المثقوب .