[size=29]مشاهيرُ النِّساءِ المُسْلِماتِ[/size]
[size=29][/size]
[size=21]الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
[size=21]فهذه
سلسلة من أعلام المسلمات عبر التاريخ الإسلامي ، فيها ومضات مشرقة من
حياتهن ، تصلح لكل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ، حيث تجد مثلها الأعلى
في تلك الفضليات المتألقات في تاريخ البشرية.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ :
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا لاَ نُذْكَرُ فِى الْقُرْآنِ كَمَا
يُذْكَرُ الرِّجَالُ ؟ قَالَتْ : فَلَمْ يَرُعْنِى مِنْهُ يَوْماً إِلاَّ
وَنِدَاؤُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ ». قَالَتْ
وَأَنَا أُسَرِّحُ رَأْسِى فَلَفَفْتُ شَعْرِى ثُمَّ دَنَوْتُ مِنَ
الْبَابِ فَجَعَلْتُ سَمْعِى عِنْدَ الْجَرِيدِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ :
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : قال تعالى : (إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ
وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا
عَظِيمًا) (35) سورة الأحزاب . مسند أحمد (27334) صحيح
[size=21]أقدم هذه الباقة العطرة لهن جميعاً راجيا من الله تعالى أن تكون مفتاحا لكل خير مغلاقا لكل شر .
وعنْ جَابِرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضيَ اللهُ عنهما قالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(
اتَّقُوا اللَّهَ فِى النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ
اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ
عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ
فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ
عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ )أخرجه مسلم برقم (3009 )
قال الشاعر ُ:
فَلَوْ كانَ النِّسَاءُ كَمِثْلِ هذِي ... لَفُضِّلَتِ النَسَاءُ على الرِّجَالِ
فما التأْنِيثُ لاسْمِ الشَّمْس عَيْبٌ ... ولاَ التذْكِيرُ فَخْرٌ لِلهلاَلِ
[/size][/size][/size]
[size=25][size=25]
[size=29]الأمُّ( حواء )[/size][/size][/size]
[size=25][size=25][size=21]كان
الأب الأول للخلق جميعًا يعيش وحده بين أشجار الجنة وظلالها، فأراد الله
أن يؤنس وحشته، وألا يتركه وحيدًا، فخلق له من نفسه امرأة، تقرُّ بها عينه،
ويفرح بها قلبه، وتسكن إليها نفسه، وتصبح له زوجة يأنس بها، فكانت حواء،
هدية الله إلى أبي البشر آدم -عليه السلام- وأسكنهما الله الجنة، وأباحها
لهما يتمتعان بكل ما فيها من ثمار، إلا شجرة واحدة أمرهما أن لا يأكلا
منها:(وَقُلْنَا
يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً
حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الْظَّالِمِينَ)[البقرة: 35].
[size=21]وعاشت
حواء مع آدم عليه السلامُ بين أشجار الجنة يأكلان مما فيها من فواكه كثيرة
وخيرات متعددة، وظلا على عهدهما مع اللَّه،لم يقربا الشجرة التي حرمها
عليهما.لكن
إبليس اللعين لم يهدأ له بال، وكيف يهدأ بالُه وهو الذي توعد آدم وبنيه
بالغواية والفتنة؟! وكيف تستريح نفسه وهو يرى آدم وحواء يتمتعان في الجنة؟!
فتربص بهما، وفكر في طريقة تخرجهما من ذلك النعيم، فأخذ يدبر لهما حيلة؛
ليعصيا اللَّه، ويأكلا من الشجرة؛ فيحلَّ عليهما العقاب.
ووجد
إبليس الفرصة ! فقد هداه تفكيره الخبيث لأن يزين لآدم وحواء الأكل من
الشجرة التي حرمها الله عليهما، لقد اهتدى لموطن الضعف عند الإنسان، وهو
رغبته في البقاء والخلود:(فَوَسْوَسَ
لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ
سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ
إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)) [الأعراف: 20-21] .
[size=21]وهكذا
زيَّن لهما الشيطان الأكل من الشجرة، وأقسم لهما أنه لهما ناصح أمين، وما
إن أكلا من الشجرة حتى بدت لهما عوراتهما، فأسرعا إلى أشجار الجنة يأخذان
منها بعض الأوراق ويستتران بها. ثم جاء عتاب اللَّه لهما، وتذكيرهما بالعهد
الذي قطعاه معه -سبحانه وتعالى-:(فَلَمَّا
ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ
عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين)[الأعراف : 22].
[size=21]وعرف
آدم وحواء أن الشيطان خدعهما وكذب عليهما... فندما على ما كان منهما في حق
اللَّه سبحانه، ولكن ماذا يصنعان؟ وكيف يصلحان ما أفسد الشيطان؟!! وهنا
تنزلت كلمات اللَّه على آدم، ليتوب عليه وعلى زوجه( فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) )[البقرة: 37].وكانت تلك الكلمات هي:(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23))[الأعراف: 23].
[size=21]وبعد ذلك.. أهبطهما ربهما إلى الأرض، وأهبط معهما الشيطان وأعوانه، ومخلوقات أخرى كثيرة:(وَقُلْنَا
اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39))[البقرة : 36].
وهكذا
بدأت الحياة على الأرض، وبدأت معركة الإنسان مع الشيطان، وقدر اللَّه لآدم
وحواء أن يعمرا الأرض، وتنتشر ذريتهما في أرجاء المعمورة. ثم نزلت لهم
الرسالات السماوية التي تدعو إلى الهدى والتقوى. قال تعالى:(يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1))[النساء:1].
وقد حذرنا الله تعالى من طاعة الشيطان بقوله :(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(6) سورة فاطر
[size=21]وظلت حواء طائعة لله -تعالى- حتى جاء أجلها، فرضي الله عنها.
[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=25]أمُّ الذبيح(هاجر)
[/size]
[size=21][/size]
[size=21]هناك..
فى صحراء مكة القاحلة.. حيث لا زرع ولا ماء.. ولا أنيس ولا رفيق.. تركها
زوجها هي ووليدها.. ثم مضى في طريق عودته، وترك لهم تمرًا وماءً.[/size]
[size=21]فنادته
زوجته وهى تقول: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس
فيه أنيس ولا شيء؟! فلم يلتفت إليها الزوج، وكأنه على يقين من وعد الله
الذي لا يتخلف ولا يخيب.
فقالت الزوجة -وكأنها أدركت أن أمرًا ما يمنع زوجها من الرد عليها-: الله أمرك بهذا؟
فيرد الزوج: نعم.
فتقول
الزوجة التي آمنت بربها، وعرفت معنى اليقين بصِدْقِ وَعْدِ الله، وفهمت
كيف تكون معينة لزوجها على طاعة ربها، تقول في غير تردد ولا قلق: إذن لا
يضيعنا. وانصرف إبراهيم -عليه السلام- وهو يدعو ربه ويقول:(رَبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا
نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي
الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)) [إبراهيم/37-39]).
ونفد
الماء والزاد، والأم لا تجد ما تروى به ظمأ طفلها، وقد جفّ لبنها فلا تجد
ما ترضعه. فيتلوى الطفل جوعًا وعطشًا، ويصرخ، ويتردد في الصحراء والجبال
صراخه الذي يدمي قلب الأم الحنون.
وتسرع
الأم وتصعد على جبل الصفا، لتنظر أحدًا ينقذها هي وطفلها من الهلاك، أو
تجد بعض الطعام أو الشراب. ولكنها لا تجد فتنزل مسرعة وتصعد جبل المروة،
وتفعل ذلك سبع مرات حتى تمكن منها التعب، وأوشك اليأس أن يسيطر عليها،
فيبعث الله جبريل -عليه السلام- فيضرب الأرض بجناحه؛ لِتَخْرُجَ عينُ ماءٍ
بجانب الصغير، فتهرول الأم نحوها وقلبها ينطلق بحمد الله على نعمته، وجعلت
تغرف من مائها، وتحاول جاهدة إنقاذ فلذة كبدها، وتقول لعين الماء: زُمّي
زُمّي، فسميت هذه العين زمزم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :«
يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ
قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ - لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا »[البخاري برقم (2368 )].
إنها هاجر، أم إسماعيل، وزوجة إبراهيم خليل الله - رضي الله عنها -. عُرِفَتْ في التاريخ بأمِّ العَرَب العدنانيين.
وَهَبَهَا
ملكُ مِصرَ إلى السيدة سارة -زوج إبراهيم الأولى-، عندما هاجرا إلى مصر.
ولما أدركت سارة أنها كبرت في السن، ولم تنجب، وهبت هاجر لزوجها ليتزوجها،
عسى الله أن يرزقه منها الولد.
وتزوج
إبراهيم -عليه السلام- السيدة هاجر، وبدت عليها علامات الحمل، ثم وضعت
إسماعيل -عليه السلام- ووجدت الغيرة طريقها إلى قلب السيدة سارة، فكأنها
أحست أنها فقدت المكانة التي كانت لها في قلب زوجها من قبل، فطلبت منه أن
يأخذ السيدة هاجر بعيدًا عنها، فأخذها سيدنا إبراهيم -عليه السلام- إلى
صحراء مكة، بأمرٍ من الله، ولحكمة يريدها عز وجل، وحدث ما حدث لها
ولوليدها.
ومرت
الأيام بطيئة ثقيلة، حتى نزل على هاجر وابنها إسماعيل بعض أناس من قبيلة
"جُرْهُم" وأرادوا البقاء في هذا المكان؛ لما رأوا عندها الماء، فسمحت لهم
بالسكن بجانبها، ومشاركتها في الشرب من ماء زمزم، واستأنست بهم، وشبَّ
الطفل الرضيع بينهم، وتعلم اللغة العربية منهم، ولما كبر تزوج امرأة منهم.
هذه
هي هاجر أم الذبيح وأم العرب العدنانيين، رحلت عنا بعدما تركت لنا مثالا
رائعًا للزوجة المطيعة، والأم الحانية، والمؤمنة القوية ؛ فقد أخلصت النية
للَّه تعالى، فرعاها في وحشتها، وأمَّنها في غيبة زوجها، ورزقها وطفلها من
حيث لا تحتسب.
وقد جعل الله - سبحانه - ما فعلته السيدة هاجر - رضي الله عنها- من الصعود والسعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج.
و توفيت ، ودفنها إسماعيل -عليه السلام- بجانب بيت الله الحرام.[/size]
[size=21][size=29]المهاجرةُ(سارة)
[/size][/size]
[size=21]خرجتْ مهاجرة في سبيل الله مع زوجها وابن أخيه لوط -عليهما السلام- إلى فلسطين.
ولما
اشتد الجفاف في فلسطين هاجرت مع زوجها مرة أخرى إلى مصر. وسرعان ما انتشر
خبرهما عند فرعون مصر الذي كان يأمر حراسه بأن يخبروه بأي امرأة جميلة تدخل
مصر.
وذات
يوم، أخبره الجنود أن امرأة جميلة حضرتْ إلى مصر، فلما علم إبراهيم بالأمر
قال لها: إنه لو علم أنك زوجتي يغلبني عليكِ، فإن سألك فأخبريه بأنك أختي،
وأنت أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في هذه الأرض مسلمًا غيرك وغيري".
وطلب
فرعون من جنوده أن يحضروا هذه المرأة، ولما وصلت إلى قصر فرعون دعت اللَّه
ألا يخذلها، وأن يحيطها بعنايته، وأن يحفظها من شره، وأقبلت تتوضأ وتصلي
وتقول: "اللهم إن كنتَ تعلم أنى آمنتُ بك وبرسولك، وأحصنتُ فرجى إلا على
زوجي، فلا تسلط عليَّ هذا الكافر".فاستجاب اللَّه دعاء عابدته المؤمنة
فشَلّ يده عنها -حين أراد أن يمدها إليها بسوء- فقال لها : ادعى ربك أن
يطلق يدي ولا أضرك. فدعت سارة ربها؛ فاستجاب الله دعاءها، فعادت يده كما
كانت، ولكنه بعد أن أطلق اللَّه يده أراد أن يمدها إليها مرة ثانية؛
فَشُلّت، فطلب منها أن تدعو له حتى تُطْلق يده ولا يمسها بسوء، ففعلت،
فاستجاب الله دعاءها، لكنه نكث بالعهد فشُلّت مرة ثالثة. فقال لها : ادعى
ربك أن يطلق يدي، وعهدٌ لا نكث فيه ألا أمسّك بسوء، فدعت اللَّه فعادت
سليمة، فقال لمن أتى بها: اذهب بها فإنك لم تأتِ بإنسان، وأمر لها بجارية،
وهى "هاجر" -رضي الله عنها- وتركها تهاجر من أرضه بسلام.( البخاري برقم(2217 ) بنحوه )
ورجع إبراهيم وزوجه إلى فلسطين مرة أخرى، ومضى "لوط" -عليه السلام- فى طريقه إلى قوم سدوم وعمورة (الأردن الحالية)
يدعوهم إلى عبادة اللَّه، ويحذرهم من الفسوق والعصيان. ومرت الأيام
والسنون ولم تنجب سارة بعد ابنًا لإبراهيم، يكون لهما فرحة وسندًا، فكان
يؤرقها أنها عاقر لا تلد، فجاءتها جاريتها هاجر ذات مرة؛ لتقدم الماء لها،
فأدامت النظر إليها، فوجدتها صالحة لأن تهبها إبراهيم، لكن التردد كان
ينازعها؛ خوفًا من أن يبتعد عنها ويقبل على زوجته الجديدة، لكن بمرور
الأيام تراجعت عنها تلك الوساوس، وخفَّت؛ لأنها تدرك أنّ إبراهيم - عليه
السلام - رجل مؤمن، طيب الصحبة والعشرة، ولن يغير ذلك من أمره شيئًا.
وتزوَّج
إبراهيم -عليه السلام- "هاجر"، وبدأ شيء من الغيرة يتحرك في نفس سارة، بعد
أن ظهرت علامات الحمل على هاجر، فلمّا وضعت هاجر طفلها إسماعيل - عليه
السلام - طلبت سارة من إبراهيم أن يبعدها وابنها، ولأمر أراده اللَّه أخذ
إبراهيم هاجر وابنها الرضيع إلى وادٍ غير ذي زرع من أرض مكة عند بيت الله
الحرام، فوضعهما هناك مستودعًا إياهما اللَّه، وداعيا لهما بأن يحفظهما
الله ويبارك فيهما، فدعا إبراهيم -عليه السلام- ربه بهذا الدعاء: (رَّبَّنَا
إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاس تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم :37] .
لكن
آيات الله لا تنفد، فأراد أن يظهر آية أخرى معها. وذات يوم، جاء نفرٌ
لزيارة إبراهيم عليه السلام؛ فأمر بذبح عجل سمين، وقدمه إليهم، لكنه دهش
لما وجدهم لا يأكلون، وكان هؤلاء النفر ملائكة جاءوا إلى إبراهيم -عليه
السلام- في هيئة تجار، ألقوا عليه السلام فرده عليهم . قال تعالى: (وَلَقَدْ
جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ
سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ. فَلَمَّا رَأَى
أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً
قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوط) [هود: 69-70] .
قال تعالى:(فَلَمَّا
ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا
فِى قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) [هود : 47-48]
وأخبرت
الملائكة إبراهيم - عليه السلام- أنهم ذاهبون إلى قوم لوط؛ لأنهم عصوا نبي
الله لوطًا، ولم يتبعوه. وقبل أن تترك الملائكة إبراهيم -عليه السلام-
بشروه بأن زوجته سارة سوف تلد ولدًا اسمه إسحاق، وأن هذا الولد سيكبر
ويتزوج، ويولد له ولد يسميه يعقوب.
ولما
سمعت سارة كلامهم، لم تستطع أن تصبر على هول المفاجأة، فعبَّرت عن فرحتها،
ودهشتها كما تعبر النساء؛ فصرخت تعجبًا مما سمعت، وقالت:
(قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى
شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ
اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ
إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ)[هود: 72-73] .
وحملت سارة بإسحاق - عليه السلام - ووضعته، فبارك اللَّه لها ولزوجها فيه ؛ ومن إسحاق انحدر نسل بني إسرائيل .
هذه
هي سارة زوجة نبي اللَّه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- التي كانت أول من
آمن بأبي الأنبياء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - حين بعثه اللَّه لقومه
يهديهم إلى الرشد، ثم آمن به لوط ابن أخيه - عليه السلام -، فكان هؤلاء
الثلاثة هم الذين آمنوا على الأرض في ذلك الوقت.[/size]
[size=29]المتوكلةُ (أم موسى عليه السلام)
[/size]
[size=21]تحت
صرخات امرأة ذُبح ابنها، فتحت زوجة عمران الباب، بعد أن ابتعدت أقدام جنود
فرعون، واختفت ضحكاتهم الوحشية، ومضت إلى جارتها، التي كانت أقرب إلى
الموت منها إلى الحياة، تخفف عنها آلامها، وتواسيها في أحزانها.
كان
بنو إسرائيل في مصر يمرون بأهوال كثيرة، فقد ضاق بهم "فرعون"، وراح
يستعبدهم ويسومهم سوء العذاب؛ نتيجة ما رأى في منامه من رؤيا أفزعته، فدعا
المنجِّمين لتأويل رؤياه، فقالوا: سوف يولد في بني إسرائيل غلام يسلبك
المُلك، ويغلبك على سلطانك، ويبدل دينك. ولقد أطلَّ زمانه الذي يولد فيه
حينئذٍ.
ولم
يبالِ فرعون بأي شيء سوى ما يتعلق بملكه والحفاظ عليه، فقتل الأطفال دون
رحمة أو شفقة، وأرسل جنوده في كل مكان لقتل كل غلام يولد لبني إسرائيل .
وتحت
غيوم البطش السوداء، ورياح الفزع العاتية، وصرخات الأمهات وهن يندبن
أطفالهن الذين قُتِلوا ظلمًا، كان الرعب يسيطر على كيان زوجة عمران،
ويستولى الخوف على قلبها، فقد آن وضع جنينها وحان وقته، وسيكون مولده في
العام الذي يقتل فرعون فيه الأطفال. واستغرقت في تفكير عميق، يتنازع أطرافه
يقين الإيمان ولهفة الأم على وليدها، ووسوسة الشيطان الذي يريد أن يزلزل
فيها ثبات الإيمان، لذلك كانت تستعين دائمًا باللَّه، وتستعيذ به من تلك
الوساوس الشريرة .
ولما
أكثر جنود فرعون من قتل ذكور بني إسرائيل قيل لفرعون: إنه يوشك إن استمر
هذا الحال أن يموت شيوخهم وغلمانهم، ولا يمكن لنسائهم أن يقمن بما يقوم به
الرجال من الأعمال الشاقة فتنتهي إلينا، حيث كان بنو إسرائيل يعملون في
خدمة المصريين فأمر فرعون بترك الولدان عامًا وقتلهم عامًا، وكان رجال
فرعون يدورون على النساء فمن رأوها قد حملت، كتبوا اسمها، فإذا كان وقت
ولادتها لا يولِّدها إلا نساء تابعات لفرعون . فإن ولدت جارية تركنها، وإن
ولدت غلامًا؛ دخل أولئك الذباحون فقتلوه ومضوا. ولحكمة اللَّه -تعالى
وعظمته- لم تظهر على زوجة عمران علامات الحمل كغيرها ولم تفطن لها القابلات
، وما إن وضعت موسى - عليه السلام- حتى تملكها الخوف الشديد من بطش فرعون
وجنوده، واستبد بها القلق على ابنها موسى، وراحت تبكي حتى جاءها وحى اللَّه
عز وجل آمرًا أن تضعه داخل صندوق وتلقيه في النيل. قال تعالى:(وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ
فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[القصص :7].
وكانت
دار أم موسى على شاطئ النيل، فصنعت لوليدها تابوتًا وأخذت ترضعه، فإذا دخل
عليها أحد ممن تخافه، ذهبت فوضعته في التابوت، وسَيرَتْهُ في البحر،
وربطته بحبل عندها.
وذات
يوم، اقترب جنود فرعون، وخافت أم موسى عليه، فأسرعت ووضعته في التابوت،
وأرسلته في البحر، لكنها نسيت في هذه المرة أن تربط التابوت، فذهب مع الماء
الذي احتمله حتى مرَّ به على قصر فرعون. وأمام القصر توقف التابوت، فأسرعت
الجواري وأحضرنه، وذهبن به إلى امرأة فرعون، فلما كشفت عن وجهه أوقع
اللَّه محبته في قلبها، فقد كانت عاقرًا لا تلد. وذاع الخبر في القصر،
وانتشر نبأ الرضيع حتى وصل إلى فرعون، فأسرع فرعون نحوه هو وجنوده وهمّ أن
يقتله، فناشدته امرأته أن يتركه، وقالت له:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [القصص: 9].
كاد
قلب أم موسى أن يتوقف، فهي ترى ابنها عائمًا في صندوق وسط النهر، ولكنَّ
الله صبرها، وثبتها، وقالت لابنتها: اتبعيه، وانظري أمره، ولا تجعلي أحدًا
يشعر بك. وكان قلبها ينفطر حزنًا على مصير وليدها الرضيع الذي جرفه النهر
بعيدًا عنها(وَأَصْبَحَ
فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلَا أَن
رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ
لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُون) [القصص: 10-11].
فرحت
امرأة فرعون بموسى فرحًا شديدًا، ولكنه كان دائم البكاء، فهو جائع، ولكنه
لا يريد أن يرضع من أية مرضعة، فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح
لرضاعته، فلما رأته أخته بأيديهم عرفته، ولم تُُظِْْهِْر ذلك، ولم يشعروا
بها، فقالت لهم: أعرف من يرضعه. وأخذته إلى أمه.(
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ
نَاصِحُونَ. فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا
تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 12-13]. هذا هو القدر الإلهي يظهر منه ومضات ليتيقن الناس أن خالق السَّماوات والأرض قادر على كل شيء: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يوسف: 21].
وما
إن وصل موسى -عليه السلام- إلى أمه حتى أقبل على ثديها، ففرحت الجواري
بذلك فرحًا شديدًا، وذهب البشير إلى امرأة فرعون، فاستدعت أم موسى، وأحسنت
إليها، وأعطتها مالا كثيرًا - وهى لا تعرف أنها أمه-، ثم طلبتْ منها أن
تُقيم عندها لترضعه فرفضتْ، وقالت : إن لي بعلا وأولادًا، ولا أقدر على
المقام عندك، فأخذته أم موسى إلى بيتها، وتكفلت امرأة فرعون بنفقات موسى.
وبذلك رجعت أم موسى بابنها راضية مطمئنة، وعاش موسى وأمه في حماية فرعون
وجنوده، وتبدل حالهما بفضل صبر أم موسى وإيمانها.
ولم يكن بين الشدة والفرج إلا يوم وليلة، فسبحان من بيده الأمر، يجعل لمن اتقاه من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.[/size]
[size=21][size=29]زوجةُ الفراسة والحياء( زوجة موسى عليه السلام)
[/size][/size]
[size=21]يقول ابن مسعود:أَفْرَسُ
النَّاسِ ثَلاَثَةٌ : أَبُو بَكْرٍ حِين تَفَرَّسَ فِي عُمَرَ
فَاسْتَخْلَفَهُ , وَاَلَّتِي ، قَالَتْ : اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ
اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الأَمِينُ وَالْعَزِيزُ حِينَ ، قَالَ
لاِمْرَأَتِهِ : أَكْرِمِي مَثْوَاهُ . ابن أبي شيبة برقم(37059) وهو صحيح
ولكن ما الذي أخرج موسى من مصر إلى أرض مدين في جنوب فلسطين؛ ليتزوج من ابنة الرجل الصالح، ويرعى له الغنم عشر سنين ؟!
كان
موسى يعيش في مصر، وبينما هو يسير في طريقه رأى رجلين يقتتلان؛ أحدهما من
قومه "بني إسرائيل"، والآخر من آل فرعون. وكان المصري يريد أن يسخِّر
الإسرائيلي في أداء بعض الأعمال، واستغاث الإسرائيلي بموسى، فما كان منه
إلا أن دفع المصري بيده فمات على الفور، قال تعالى: (وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا
رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ
فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ
فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِين)[القصص: 15].
وفى
اليوم التالي تشاجر الإسرائيلي مع رجل آخر فاستغاث بموسى -عليه السلام-
مرة ثانية فقال له موسى: إنك لَغَوِى مُبين؛ فخاف الرجل وباح بالسِّرِّ
عندما قال: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس، فعلم فرعون وجنوده بخبر
قتل موسى للرجل، فجاء رجل من أقصى المدينة يحذر موسى، فأسرع بالخروج من
مصر، وهو يستغفر ربه قائلاً:(رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[القصص :16].
وخرج
موسى من مصر، وظل ينتقل حتى وصل إلى أرض مَدْين في جنوب فلسطين، وجلس موسى
-عليه السلام- بالقرب من بئر، ولكنه رأى منظرًا لم يعجبه؛ حيث وجد الرعاة
يسقون ماشيتهم من تلك البئر، وعلى مقربة منهم تقف امرأتان تمنعان غنمهما عن
ورود الماء؛ استحياءً من مزاحمة الرجال، فأثر هذا المنظر في نفس موسى؛ إذ
كان الأولى أن تسقى المرأتان أغنامهما أولاً، وأن يفسح لهما الرجال
ويعينوهما، فذهب موسى إليهما وسألهما عن أمرهما، فأخبرتاه بأنهما لا
تستطيعان السقي إلا بعد أن ينتهي الرجال من سقي ماشيتهم، وأبوهما شيخ كبير
لا يستطيع القيام بهذا الأمر، فتقدم ليسقى لهما كما ينبغي أن يفعل الرجال
ذوو الشهامة، فزاحم الرجال وسقى لهما، ثم اتجه نحو شجرة فاستظل بظلها، وأخذ
يناجى ربه: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (24) سورة القصص.
وعادت
الفتاتان إلى أبيهما، فتعجب من عودتهما سريعًا. وكان من عادتهما أن تمكثا
وقتًا طويلا حتى تسقيا الأغنام، فسألهما عن السبب في ذلك، فأخبرتاه بقصة
الرجل القوى الذي سقى لهما، وأدى لهما معروفًا دون أن يعرفهما، أو يطلب
أجرًا مقابل خدمته، وإنما فعل ذلك مروءة منه وفضلا.
وهنا يطلب الأب من إحدى ابنتيه أن تذهب لتدعوه، فجاءت إليه إحدى الفتاتين تمشي على استحياء، لتبلغه دعوة أبيها:(فَجَاءتْهُ
إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (25) سورة القصص.
وعندئذ سارعت إحدى الفتاتين -بما لها من فراسة وفطرة سليمة، فأشارت على أبيها بما تراه صالحًا لهم ولموسى -عليه السلام-:(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِى الأَمِين)[القصص: 26].فهي
وأختها تعانيان من رعى الغنم، وتريد أن تكون امرأة مستورة، لا تحتكّ
بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى، فالمرأة العفيفة الروح لا تستريح
لمزاحمة الرجال.وموسى فتى لديه من القوة
والأمانة ما يؤهله للقيام بهذه المهمة، والفتاة تعرض رأيها بكل وضوح، ولا
تخشى شيئًا، فهي بريئة النفس، لطيفة الحسّ.
ويقتنع الشيخ الكبير لما ساقته ابنته من مبررات بأن موسى جدير بالعمل عنده ومصاهرته، فقال له:(إِنِّى
أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى
ثَمَانِى حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ
أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا
عُدْوَانَ عَلَى وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)[القصص :27-28].
ولمَّا وَفَّى
موسى الأجل وعمل في خدمة صِهْرِه عشر سنين، أراد أن يرحل إلى مصر، فوافق
الشيخ ودعا له بالخير، فخرج ومعه امرأته وما أعطاه الشيخ من الأغنام، فسار
موسى من مدين إلى مصر.
وهكذا كانت
زوجة موسى - رضي اللَّه عنها - نموذجًا للمؤمنة، ذات الفراسة والحياء،
وكانت قدوة في الاهتمام باختيار الزوج الأمين العفيف.[/size]
[size=21][size=29]الملكةُ المؤمنةُ ( آسيا بنت مزاحم )
[/size][/size]
[size=16][size=21]نشأتْ
ملكة في القصور، واعتادتْ حياة الملوك، ورأَتْ بطش القوة، وجبروت السلطان،
وطاعة الأتباع والرعية، غير أن الإيمان أضاء فؤادها، ونوَّر بصيرتها،
فسئمتْ حياة الضلال، واستظلتْ بظلال الإيمان، ودعتْ ربها أن ينقذها من هذه
الحياة، فاستجاب ربها دعاءها، وجعلها مثلا للذين آمنوا، فقال :
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ
قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن
فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11].
وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :«
أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ
وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ
فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ».[أحمد] برقم(2720) وهو صحيح.
إنها
آسية بنت مزاحم -امرأة فرعون- التي كانت نموذجًا خلّده القرآن للمؤمنة
الصادقة مع ربها، فهي عندما عرفت طريق الحق اتبعتْه دون خوف من الباطل،
وظلم أهله، فلقد آمنت باللَّه إيمانًا لا يتزعزع ولا يلين، ولم تفلح
تهديدات فرعون ولا وعيده في ثنيها عن إيمانها، أو إبعادها عن طريق الحق
والهدى. لقد تاجرتْ مع اللَّه، فربحَتْ تجارتها، باعتْ الجاه والقصور
والخدم، بثمن غال، ببيتٍ في الجنة .
وقد
جاء ذكر السيدة آسية - رضي اللَّه عنها - في قصة موسى - عليه السلام -
حينما أوحى اللَّه إلى أُمِّه أن تُلْقيه في صندوق، ثم تلقى بهذا الصندوق
في البحر، وفيه موسى، ويلْقِى به الموج نحو الشاطئ الذي يطلّ عليه قصر
فرعون ؛ فأخذته الجواري، ودخلن به القصر، فلما رأت امرأة فرعون ذلك الطفل
في الصندوق؛ ألقى الله في قلبها حبه، فأحبته حبَّا شديدًا.
وجاء فرعون
ليقتله - كما كان يفعل مع سائر الأطفال الذين كانوا يولدون من بني إسرائيل -
فإذا بها تطلب منها أن يبقيه حيا؛ ليكون فيه العوض عن حرمانها من الولد.
وهكذا مكن اللَّه لموسى أن يعيش في بيت فرعون، قال تعالى:(وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ
فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِ ولا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا
كَانُوا خَاطِئِينَ. وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى
وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا
وَهُمْ لَا يَشْعُرُون)[القصص 7-9] .
[font:6bed=MCS Jeddah S_U nor