حين تستقيم الفطرة وتسلم من اتباع الهوى تتمثل في صاحبها بخلق الأمانة، وفي
تفسير قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ
مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)
[الأحزاب:72].
يقول القرطبي : ( والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال ) كما يقول في تفسير قوله تعالى
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)
[المؤمنون
:8] : ( والأمانة والعهد : يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه
قولا وفعلاً ، وهذا يعم معاشرة الناس ، والمواعيد، وغير ذلك, وغاية ذلك
حفظه والقيام به ) .
وحين يعم التعامل بالأمانة يؤدي الذي أؤتمن
أمانته ، سواء أؤتمن على قنطار أو دينار ، لأن الله أمر بأداء الأمانات إلى
أهلها ، ونهى عن خيانة الله والرسول وخيانة الأمانات ، وجعل من صفات
المفلحين أنهم يرعون عهودهم وأماناتهم .
والنفوس البشرية بفطرتها تميل
إلى الناصح الأمين ، وتثق بالقوي الأمين، حتى غير المسلمين يؤثرون الأمين ،
فقد ورد في قصة أهل نجران لما وافقوا على دفع الجزية أنهم قالوا : ( إنا
نعطيك ما سألتنا ، وابعث معناً رجلاً أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أميناً .
فقال : لأبعثن معكم رجلاً أمينا ، حق أمين ) ، وأرسل معهم أبا عبيدة .
إن
من أغلى ما يرزقه الله للعبد ، ولا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا ، ما
جاء في الحديث : ( أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : صدق
الحديث، وحفظ الأمانة ، وحسن الخلق ، وعفة مطعم ) فالأمانة ركن من هذه
الأركان الأخلاقية الأربعة ، التي لا يعدلها شيء في الدنيا ، بل قد تكون
سببا في إقبال الدنيا على العبد ، لما يجده الناس فيه .
والأمانة صفة مميزة لأصحاب الرسالات ، فقد كان كل منهم يقول لقومه ( إني لكم رسول أمين ) [ الشعراء : 107، 125 ،143،162، 178] .
وكانت
تلك شهادة أعدائهم فيهم ، كما جاء في حوار أبي سفيان وهرقل ، حيث قال هرقل
: ( سألتك ماذا يأمركم ؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة ، والصدق، والعفاف ،
والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ـ قال : و هذه صفة نبي ) وفي موضع آخر في
صحيح البخاري : ( .. وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أن لا. وكذلك الرسل لا يغدرون
..).
ولئن كانت هذه صفة أصحاب الدعوات فإن أتباعهم كذلك متميزون ، ولذلك اقترن تعريف المؤمن بسلوكه المميز ، حيث قال صلى الله عليه وسلم :
( والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ) .
وإذا
تمكنت صفة الأمانة من صاحبها تعامل بها القريب والبعيد ، والمسلم ،
والكافر ، يقول ابن حجر : ( الغدر حرام باتفاق ، سواء كان في حق المسلم أو
الذمي ) . وكذلك حال المؤمن حتى مع من عرف بالخيانة ، واشتهر بالغدر كما في
الحديث : ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك ) . وذلك لأن
خطورة السقوط في الخيانة ، وفساد الفطرة بنقص العهد ، أشد من مجرد مقابلة
الخائن بمثل فعله ، لأن السقوط مرة قد تستمرئه النفس ، وتواصل في منحدر
الخيانة .
ومن الصور العملية للأمانة : أن تنصح من استشارك ، وأن
تصدق من وثق برأيك ، فقد جاء في الحديث : ( المستشار مؤتمن ) ( .. ومن أشار
على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) وماذا يكون قد بقي فيه من
الخير من أشار على أخيه بما لا ينفعه ، بل ربما بما يضره ؟ ! ..
والمجاهد في أرض المعركة مأمور بالأمانة ، ومنهي عن الغدر والخيانة والغلول :
(
لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثلوا ... ) والقاعد الذي يخلف المجاهد في أهله
بخير قائم بالأمانة ، وإن قصر أو خان وقف له المجاهد يوم القيامة ، يأخذ
من حسناته ما شاء : ( .. وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في
أهله فيخونه فيهم إلا وقف يوم القيامة ، فيأخذ من عمله ما شاء .. فما ظنكم
؟ )
أي هل تظنون أنه يبقي له من حسناته شيئاً ؟.
ومن أخطر
الأمانات شأنا حفظ أسرار الناس ، وستر عوراتهم وكتمان أحاديث مجالسهم ، فقد
ورد في الحديث ( المجالس بالأمانة ) وإن لم يوص المتحدث بكتمان حديثه
الخاص إليك يكن لم لك أن تشيعه إلاّ بإذنه وعلمه ؛ لقوله صلى الله عليه
وسلم : ( إذا حدث رجل رجلاً بحديث ثم التفت فهو أمانة) وأقل ما في هذه
الأمانة أن ينقله الناقل ـ حين ينقله ـ بنصه ، ولا يحمله ما ليس فيه بتدليس
أو تحريف .
ومن الأمانة في العمل إتقانه، وكتمان أسراره ، ولذلك ترجم
البخاري في كتاب الأحكام ( باب : يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلاً )
مشيراً بذلك إلى قول أبي بكر لزيد بن ثابت ـ رضي الله عنهما ـ حين أراد أن
يستعمله :
( إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ) .
ومن مخاطر الأزمان
المتأخرة اضطراب الموازين ، وفساد القيم ، إلى الدرجة التي وصفها رسول الله
صلى الله عليه وسلم بقوله : ( سيأتي على الناس سنوات خداعات ،يصدق فيها
الكاذب ، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ،
وينطق فيها الرويبضة في أمر العامة ، قيل وما الرويبضة ؟
قال : الرجل التافه ) .
وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم من انتشار الخيانة بعد قرون الخير فقال " .. إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون ... ".
ومنذ
ذلك الحين استمر مسلسل السقوط إلى أن أصبحنا نرى الأمر يوّسد إلى غير أهله
، ويؤتمن الخائن ، ويخون الأمين . ويغدو الأمناء ـ حقا ـ ندرة يشار إليهم
كما جاء في الحديث : ( .. فيصبح الناس يتبايعون ، فلا يكاد أحدهم يؤدي
الأمانة ، فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا .. ) .
ومع ندرة
الأمناء يستبعدون ويولى غيرهم ، ويكون ذلك سببا في تضييع الأمانات ـ وهو من
علامات الساعة ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا ضيعت الأمانة
فانتظر الساعة . قال أبو هريرة : كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ قال : إذا
أسند الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة " . وفي الفتح : (( قال ابن بطال :
معنى
( أسند الأمر إلى غير أهله ) : أن الأئمة قد ائتمنهم الله على
عباده وفرض عليهم النصيحة لهم . فينبغي لهم توليه أهل الدين : فإذا قلدوا
غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها " .
ومن
اللمحات الفقهية لتبويب البخاري أنه استشهد بحديث : " فإذا ضيعت الأمانة
فانتظر الساعة " في كتاب العلم . ويعلل ابن حجر إيراده في كتاب العلم فيقول
: " .. ومناسبة هذا المتن لكتاب العلم أن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما
يكون عند غلبة الجهل ، ورفع العلم ، وذلك من جملة الأشراط " .
الوفاء
بحقوق الأمانة من صفات المؤمنين ، والإخلال بشيء منها خصلة من النفاق،
ولذلك جاء في صفات المنافق أنه ( إذا ائتمن خان ) وقال صلى الله عليه وسلم :
( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ) .
صاحب خلق ( الأمانة ) حريص على أداء واجبه ، بعيد عن المكر والخيانة ، حافظ للعهود ، وافٍ بالوعود .